التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الدرس الثاني : اللسانيّات البنيويّة ومفاهيمها الأساسيّة


اللسانيّات علم يتنزّل ضمن مستوين متفاعلين: مستوى داخليّ ضمن علم اللسانيّات؛ يتعلّق بتطوّر النظريّات والمدار س اللسانيّة فتولد النظريّات الجديدة انطلاقا من المآزق التي تصل إليها النظريّات القديمة، فكلّ نظريّة تمثّل نقدا للسابق وإضافة جديدة لا تقطع نهائيّا مع ما قبلها من تصوّرات. أمّا المستوى الثاني فخارجيّ يتعلّق بوجود صلة بين اللسانيّات وسائر العلوم المجاورة وقوامها علاقة تأثّر وتأثير بينهما. ذلك أنّ اللسانيّات تتأثّر بما يحدث في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها وهي في نفس الوقت تؤثّر في سائر العلوم الإنسانيّة من نقد وإنشائيّة وأنتروبولوجيا.
ضمن هذين المستويين يمكن أن ندرس آراء دي سوسير المؤسّسة للبنيويّة.
1- الخلفيّات الفكريّة والعلميّة لظهور اللسانيّات البنيويّة :
بالعودة إلى كتاب سوسير المؤسّس "دروس في الألسنيّة العامّة" يمكن أن نلاحظ وجود مؤثّرات مختلفة تتعلّق من جهة أولى بما كان سائدا في الدراسات اللسانيّة قبله. وبما كان يسود في عصره من مناهج ومفاهيم في سائر العلوم.
أ- نقد المنهج التاريخي المقارن :
كانت اللسانيّات في عصر دي سوسير توسم باللسانيّات التاريخيّة المقارنة. والسبب في ذلك هو ما توصّل إليه القاضي البريطاني السير وليامز جون من وجود تشابه صوتي بين اللغة الهنديّة القديمة (السنسكريتيّة) واللغات الأروبيّة (1786 ). وقد أدّى هذا الاكتشاف إلى تخلّص اللسانيّات من ارتباطها بالبعد الديني إلى نزعة علميّة تعتمد المقارنة بين اللغات وتعتمد جملة من الخصائص يمكن إيجازها في العناصر التالية:
* الاعتماد على منهج المقارنة بين اللغات. وقد هيمن هذاالمنهج في القرن التاسع عشر و كان منطلقه مع أعمال بروب (1816 Franz Bopp).
 * الاهتمام بالجانب الصوتيّ. والأصوات اللغويّة تمثّل  الجانب المادّي المحسوس من اللغة. وقد أدّى هذا الاهتمام إلى تطوّر علم الصوتيّات والوصول إلى جملة من القوانين الصوتيّة العلميّة المهمّة. المتحكّمة في انتقال الصوت من لسان إلى لسان. من ذلك مثلا قانون غريم (Grimm 1785-1863) الذي يتعلّق بكيّفيّة انتقال الأصوات اللغويّة بين اللغات الجرمانيّة وفق ضوابط علميّة.
* التركيز على البحث في تطوّر الصوت اللغويّ تاريخيّا عبر الزمن وتتبّع المسار الزمني الذي يقود إلى تغيير الكلمة من صيغة صرفيّة إلى صيغة جديدة. 
لقد اعتبر دي سوسير أنّ الاكتفاء بالجانب التطوّريّ فحسب يغفل جانبا مهمّا من اللغة وهو النظام. ومثّل لذلك بمفهوم القيمة؛ فمثلما نستطيع البحث في تطوّر القيمة الماليّة لقطعة أرض  واختلافها من زمن إلى آخر ، يمكن كذلك أن نحدّد تلك القيمة الآن بمعزل عن تاريخ تطوّرها. وكذلك اللغة يمكن البحث عن نظامها الحالي (بنيتها) وقيمة كلّ عنصر داخل النظام بصرف النظر عن المساار الزمني الذي قطعه ذلك النظام أو تاريخ التغيير الحاصل في قيمة كلّ عنصر. (الآنيّة‡ الزمانيّة). لكنّ دي سوسير لم يجعل المنهج الآني بديلا وضدّا ينفي المنهج الزماني بل هو منهج يوازيه فالمنهج الآني هو اقتطاع لنقطة ضمن خطّ الزمان.
ب – التأثّر بالنزعة الوضعيّة في فلسفة العلوم :
تعني النزعة الوضعيّة (positivisme) الصرامة العلميّة المطلقة ومبدأ الموضوعيّة في دراسة الظواهر. وقد ظهرت في فلسفة العلوم في القرن التاسع عشر على يد أوغيست كونط Auguste Comte 1798-1857)) وهي تقتضي التخلّص من كل الاعتقادات الذاتيّة والدينيّة في الدراسة العلميّة والتركيز على الجانب العلميّ عن طريق الموضوعيّة الصارمة واستبعاد كلّ ما هو نفسيّ أو حدسيّ أو غير قابل للملاحظة. وتعني كذلك أنّ الظواهر العلميّة والإنسانيّة جميعها قائمة في تطوّرها على قوانين علميّة صارمة مثل الآليّة والتطوّر الحتميّة. ومن نتائج هذه النزعة وجود نظريّات تقوم على هذه المبادئ المنهجيّة مثل الفلسفة الماركسيّة التي تربط ربطا حتميّا بين البنية التحتيّة للمجتمع (الصراع الطبقيّ)  والبنية الفوقيّة (الإنتاج الثقافي). ومنها الداروينيّة القائمة على التطوّر الحتميّ للأجناس والكائنات. وقد أثّرت هذه النزعة كذلك في أعمال دوركايم في علم الاجتماع وهو أحد المؤثّرين في أفكار دي سوسير.
مثّل منهج فرانس بروب البداية الفعليّة للسانيّات في طابعها العلميّ الصارم وامتدادا لهذا المنزع العلميّ من خلال استبعاد الاعتقادات الدينيّة ودراسة تطوّر اللغات والمقارنة بينها. ويمكن أن نعتبر  آراء دي سوسير امتدادا لهذا الخطّ العلميّ الذي يبحث عن الموضوعيّة الصارمة واستبعاد كلّ الاعتقادات والأحكام المعياريّة. لكنّ صرامة دي سوسير في تصوّره للغة تختلف عن النمط السائد في اللسانيّات قبله فهي قائمة على مفهوم البنية لا التطوّر الزماني وعلى الشكل لا المادّة.
ج - التأثّر بالمفاهيم النظريّة في العلوم المجاورة للّسانيّات:
انطلق دي سوسير في أفكاره من مفاهيم تعكس تأثّره بالعلوم المجاورة له، ويمكن أن نتّخذ مثالين للاستدلال على وجود هذا الاقتباس :
- مفهوم القيمة في الاقتصاد:
اعتمد دي سوسير على مفهوم القيمة في تصوّره للجانب الشكليّ من اللغة. وهو مفهوم مقتبس من علم الاقتصاد. فالقيمة في الاقتصاد تعني مردود الشيء الذي يقاس بثمن معلوم. فمثلا يقاس الدينار التونسي بمقدار معلوم من الذهب أو العملات الأجنبيّة القويّة مثل الدولار أو الأورو. أمّا عند دي سوسير فتعني قيمة العنصر أهمّيته ودوره ضمن نظام اللغة؛ فمثلا قيمة صوت الباء تختلف بين هاتين الكلمتين: [بيت]، [بين] لأنّها لا تلعب الدور نفسه. كما أنّ الصوتين [ق] و[ڨ] لهما نفس القيمة في اللهجة التونسيّة إذ لا فرق في المعنى بين من يستعمل عبارة [قال] وعبارة [ﭬال].
يقول دي سوسير : " وذلك أنّ الألسنيّة كما هو الشأن في ميدان الاقتصاد السياسيّ تجابه مفهوم القيمة، ففي هذين العلمين يتعلّق الأمر بنظام من الموافقات بين أشياء من أضرب مختلفة أي في الأوّل بين العمل والأجر وفي الثاني بين المدلول والدال". [دي سوسير، ص127]
- البعد الاجتماعي للّغة:
يعتبر دي سوسير اللغة مؤسّسة تتجاوز الفرد فهي نظام ذو بعد اجتماعيّ وهذا هو المقصود بالمؤسّسة الاجتماعيّة. فاللغة عنده مجموعة من المواضعات التي تتّفق حولها مجموعة من الناس تتكلّم نفس اللسان. يقول دي سوسير معرّفا اللغة: "" فهي في الآن نفسه نتاج اجتماعيّ لملكة الكلام، ومجموعة من المواضعات يتبنّاها الكيان الاجتماعيّ ليتمكّن الأفراد من ممارسة  هذه الملكة" [دي سوسير، ص29].
- الجانب الشكليّ يعكس نزعة التجريد في الفلسفة والعلوم الصحيحة:
 من أهمّ المبادئ التي قام عليها تصوّر دي سوسير للغة اعتبار اللسانيّات علما مهتمّا بالشكل اللغويّ لا بالمادّة الصوتيّة. هذا التصوّر المجرّد لعناصر النظام اللغويّ يمثّل نقلة كبيرة في تصوّر العلم اللسانيّ فلم يعد موضوع اللسانيّات مرتبطا فقط بالوقائع التجريبيّة من أصوات وكلمات بل صار مرتكزا على البعد المجرّد لنظام اللغة. ويعكس هذا البعد المجرّد تأثّرا بمقولة الشكل التي سبقت إلى الفلسفة خاصّة عند إيمانويل كانط (1724-1804).  ويعكس كذلك التأثّر بنزعة التجريد والترييض في العلوم الصحيحة.
- اتّصال اللسانيّات بمختلف العلوم:
أحصى دي سوسّير في دروسه جملة من الصلات التي تعقدها اللسانيّات مع سائر العلوم. وسمّاها العلوم المقترنة باللسانيّات. يقول "ذلك أنّ للألسنيّة علاقات وثيقة جدّا بعلوم أخرى، وهذه العلوم تقتبس منها  بعض المعطيات تارة وتوفّر لها بعض المعطيات تارة أخرى. والحدود التي تفصلها عن تلك العلوم لا تظهر دائما بوضوح". [دي سوسير، ص25] وكان مشروع دي سوسير الكيفيّة التي يمكن أن يميّز من خلالها اللسانيّات عن هذه الاختصاصات. ويمكن أن نحصي اعتمادا على ما ورد في دروسه جملة من الصلا مع العلوم التالية: الإتنوغرافيا (دراسة طريقة حياة الشعوب)، الأنتربولوجيا (دراسة الظواهر الثقافيّة)، علم الاجتماع، علم النفس، الفيزيولوجيا، الفيلولوجيا (دراسة اللغة انطلاقا من المخطوطات والآثار التاريخيّة المكتوبة). وقد أحصى ديسوسير في ضوء هذا الاتّصال ضربين من اللسانيّات: لسانيّات داخليّة مستقلّة عن سائر العلوم ولسانيّات خارجيّة متّصلة بها.
2- خصائص مفهوم البنية في اللسانيّات:
 نشأة مفهوم البنية في التفكير اللسانيّ بفضل أفكار دي سوسير وانتقل إلى سائر العلوم الإنسانيّة بعد أن تبنّته مجموعة من المدارس. ولذلك توسم اللسانيّات في النصف الأوّل من القرن العشرين بأنّها بنيويّة نسبة إلى هذا المفهوم. فما ذا نعني بالبنية؟
جاء في معجم اللسانيات (Dictionnaire de linguistique) لديبوا (Dubois) تعريف لمفهوم البنيةكالآتي :
Dubois at al. Dictionnaire de linguistique, p445-456
نخلص من هذا التعريف إلى تصوّر البنية مختلف بين المدارس اللسانيّة وهذا ما يمثّل في حدّ ذاته صعوبة لكن في المقابل توجد جملة من العناصر الأساسيّة المشتركة يمكن اعتبارها عمود أيّ تصوّر للبنية أهمّها:
- البنية نظام من العناصر  يتميّز بالانسجام الداخليّ بينها والترابط ولذلك ينظر إليه في كلّيّته لا في أجزائه، لأنّ أيّ عنصر فيه لا يمكن أن ننظر إليه مستقلاّ بنفسه.ذلك ما ذكره دي سوسير في تصوّره مثلا للعلامة اللغويّة وما تحمله من ترابط بين الدال والمدلول.
- لا قيمة لأيّ عنصر إلا من خلال ما ينسجه من علاقات مع بقيّة العناصر. وتمثّل تلك العلاقات جانبا شكليّا قابلا للوصف في شكل قواعد وتعميمات، فليس المهمّ هو مادّة ذلك النظام بل الشكل الذي بُنِيَ عليه. ويترجم ذلك مبدأ سوسيريّا قائما على اعتبار اللغة شكلا لا مادّة.
- النظام مستقلّ بذاته عن العوامل الخارجيّة يكتفي بنفسه. وهو قائم على جملة من القواعد التي تنظّم العلاقات بين العناصر. ويرتبط ذلك بحديث دي سوسير عن اللسانيّات الداخليّة التي لا تهتمّ بالتطوّر التاريخي والمقارنة بل ببنية الظواهر اللغويّة في حدّذاتها وفق منهج آنيّ.
- دراسة البنية يمكن أن تتحقّق في مستويات مختلفة : التركيب، الأصوات، الدلالة... وقد اهتمّ دي سوسير بهذه المستويات وإن ركّز على الكلمة دون الجملة وعلى الطابع الشكلي بدل الجانب الدلاليّ. فاهتمّ بالعلاقة بين الدال والمدلول وبالجانب الشكلي من الصوت وبالعلاقات السياقيّة داخل الجملة.
يمكن أن نمثّل لمفهوم البنية بلعبة الشطرنج: فهذه اللعبة عبارة عن مجموعة عناصر مترابطة لا قيمة لايّ عنصر  إلا من خلال دوره ووظيفته في اللعبة. وليس مهمّا أن تكون اللعبة صنعت من الخشب أو البلاستيك أو أيّ مادّة أخرى بل القيمة الأساسيّة تكمن في العلاقات الشكليّة بين العناصر. كذلك اللغة يمكن اعتبارها ظاهرة قائمة على مفهوم البنية فالكلمة والجملة والنصّ جميعها ظواهر لغويّة قائمة على عناصر مترابطة. وهذه الفكرة تمثّل خروجا مهمّا عن ربط الظواهر اللغويّة بمقاييس التطوّر الصوتيّ والدلاليّ والمقارنة بين اللغات.
2- الحدث السوسيري وتأثيره في اللسانيّات البنيويّة:
كان لمبادئ دي سوسير المنشورة في كتابه تأثير عظيم خاصّة في اللسانيّات البنيويّة الأروبيّة. وقد لخّص جورج مونان عظم تأثير  أفكار دي سوسير  في عبارة "أخيرا جاء دي سوسير" بل ذهب إلى حدّ اعتبار  ما أحدثه دي سوسير من تأثير في اللسانيّات والعلوم الإنسانيّة "ثورةً كويرنيكيّةً". ويمكن بلا شكّ اعتبار  هذا التأثير الذي أحدثته آراء دي سوسير حدثا بما أنّه غيّر وجه اللسانيّات وجعلها علما مؤثّرا في سائر العلوم الإنسانيّة. ويمكن أن نلخّص أهمّ الدواعي التي تجعل من آراء دي سوسير حدثا في العناصر التالية.
أ-  نشأة المنهج الوصفي بديلا عن المقارنة والتأريخ:
تأثّر ت العلوم الإنسانيّة بأفكار دي سوسير، وكان من ثمار ذلك بروز المنهج الوصفي الذي ينظر إلى الظواهر اللسانيّة على أنّها بناء متكامل بين عناصر ومجموعة وظائف موزّعة بينها ولا قيمة لأيّ عنصر إلا من خلال وظيفته الشكليةّ. وامتدّ هذا المنهج إلى الأدب والأنتروبولوجيا وسائر العلوم الإنسانيّة: فكل ظاهرة هي بنية مترابطة ولا بدّ من وصف العلاقات البنيويّة بين تلك العناصر. بصرف النظر عن تاريخ الظاهرة. فمثلا النصّ الأدبيّ لا يهمّنا منه الظروف التاريخيّة لنشأته ولا الجوانب النفسيّة التي تفسّر اختيارات كاتبه بل يهمّنا اعتبار النصّ بنية مترابطة ذات عناصر متشابكة فننظر إلى النصّ وقيمته في ذاته لا في علاقته بتاريخ الكاتب أو نفسيّته.
ب- مبادئ  دي سوسير المؤسّسة:
يمكن أن نفهم هذه المبادئ انطلاقا من تحليل أمثلة في اللغة العربيّة.
- الآنية و الزمانية (synchronie/diachronie): من أهمّ الاقتراحات المنهجيّة التي قدّمها دي سوسير اقتراح مفهوم الآنيّة كنمط جديد من أنماط الدراسة اللسانيّة. لقد كانت اللسانيّات قبله تهتمّ فقط بتاريخ اللغة والمقارنة بين اللغات. فاقترح أن نضيف منهجا جديدا يقوم ملاحظة نظام اللغة الآن ودون حاجة لمعرفة تاريخ تطوّره. فمثلا لا يهمّنا أن ننظر في مراحل تطوّر كلمة معيّنة صوتيّا مثل تطوّر واو القسم وانتقال هذا الحرف إلى باء القسم بل يعنينا دور هذا الحرف حاليّا في نظام اللغة العربيّة باعتباره حرف جرّ يرتبط بمجرور. ولا بدّ من التأكيد أن دي سوسير لا يقيم تناقضا بين المنهجين الزماني والآني بل يجعلهما متقابلين فلا ينفي أحدهما الآخر. فهو يقول: "يخيّل إلى الناظر السطحيّ الذي لا يتعمّق في باطن الأمورأنّه يجب أن نختار إحداهما دون الأخرى. والواقع أنّ مثل هذا الخيار ليس بالأمر الضروريّ لأنّهما لا تتنافيان البتّة ". [دي سوسير، ص147]
-اللغة والكلام:  نلاحظ أنّ جميع المتكلمين يشتركون في معرفة اللغة لكنّ كلّ فرد منهم يمكن أن ينجز ما يشاء من أقوال. هذا ما يجعل للظاهرة اللغويّة بعدين : أحدهما اجتماعي ويتعلّق بالنظام المشترك هو عبارة عن مؤسّسة قائمة على الاتذفاق الجماعي لا يمكن لاحد أن يغيّرها أو يضيف إليها قاعدة أو كلمة جديدة إلا باتفاق جماعيّ. أمّا الثاني ففردي ويتعلق بقدرة كل فرد على استغلال ذلك النظام للتواصل. فمثلا جميعنا يدرك قوانين اللغة العربية مثل بنية [المبتدأ +الخبر] لكن لا يمكن لجميع الأفراد أن ينتجوا نفس الجمل والأقوال لو طلب منهم الحديث عن نفس الأمر. يشير دي سوسير أنّ دورة الكلام بين متكلمين (أ) و(ب) تجعلهما متفقين على مبادئ للتواصل لها طابع اجتماعي لا يمكن لهما تغييره أمّا ما يقوله كلّواحد منهما فهو اجتهاد شخصيّ لا يخرج عن ذلك النظام الاجتماعيّ. وقد أدّى القول بأنّ اللغة نظام اجتماعي إلى جملة من الاقتضاءات أبرزها أنّ اللغة نظام من التواصل يندرج ضمن علم أعمّ هو علم السيميائيّة أي علم الدلائل. كما أدذى إلى اعتبار الجانب الأهمّ في اختصاص اللسانيّات هو الطابع الشكليّ المجرّد من نظام اللغة لا الطابع الفيزيائيّ الصوتيّ في كلام الفرد: "وهكذا فإنّنا إذ نفصل اللغة عن اللفظ (الكلام) نفصل في الآن نفسه: أوّلا ما هو اجتماعيّ عمّا ما هو فرديّ؛ ثانيا ما هو جوهريّ عمّا هو ثانويّ وعرضيّ بدرجة من الدرجات : ". [دي سوسير، ص34]
-العلامةاللغوية:  تتميّز العلامة اللغويّة عند دي سوسير بجملة من الخصائص أهمّها: ثنائيّة الدال والمدلول، الطابع الخطّي للدالّ ومبدأ اعتباطيّةالعلاقة بين الدال والمدلول. أمّا المبدأ الثاني فهو الطابع الخطّي للدالّ فيرتبط بالطابع السمعي للعلامة فحين نقول "كتاب" أو "طاولة" من المستحيل أن ننطق بكل الأصوات في نفس اللحظة فلا بدّ أن يتتابع النطق بشكل خطّي صوتا بعد صوت. والدليل على هذا البعد الخطّي نجده مثلا عندما نغيّر ترتيب الأصوات (أمل) إلى (ألم) يقول دي سوسير :"لمّا كان الدال ذا طبيعة سمعيّة فإنّه يجري في الزمن وحده وله بالتالي خصائص الزمنفهو يمثّل امتدادا ويمكن أن نقيس هذا الامتداد من حيث بعد واحد هو الخطّ". تعني ثنائيّة الدال والمدلول الارتباط بين الصورة السمعيّة للكلمة التي يلتقطها السامع(دال) والصورة الذهنيّة التي يلتقطها  السامع ويربطها بتلك الأصوات(مدلول) فمثلا الصورة الصوتيّة (أمل) ترتبط بذلك الشعور بالتفاؤل كما نفهمه. فكل علامة قائمة على هذه الثنائيّة. لكن لو تصوّرنا كلمة (مَأْلٌ) فهذا اللفظ لا يدل على أيّمعنى ولذلك لا يمكن اعتباره دالاّ ولا يمكن أن يتحوّل إلى علامة لغويّة. أمّا المبدأ الثالث فهو عدم وجود علاقة ضروريّة بين الدال والمدلول فالمجموعة اتفقت بمحض الصدفة على اعتبار الألفاظ (أمل) تدلّ على الشعور بالتفاؤل والألفاظ (ألم) تلّ على الشعور بالوجع. لكن كان يمكن أن يكون الأمر بالعكس لأن الصورة الأكوستيكيّة (السمعيّة) مرتبطة اعتباطيّا بالصورة الذهنيّة وبلا منطق ضروري يجعل تلك الصورة الصوتية ملتحمة بالمعنى والدليل على ذلكأنّنا يمكن أن نجد نفس الصورة الصوتية مرتبطة بدليلين مختلفين بين لغتين : مثال كلمة « car » تمثّل دالا يرتبط بمعنى "الأجليّة" في الفرنسيّة ومعنى "السيارة" في الانجليزيّة.
-اللسانيات الداخليةو للسانيات الخارجية: يميّز دي سوسير بين دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها بمنهج آنيّ وبين دراسة اللغة في علاقتها بسائر الظواهر . اللسانيّات التي تدرس فقط موضوع اللغة يسمّيها لسانيات داخليّة. أمّا اللسانيّات التي تدرس اللغة في علاقتها بسائر الظواهر الخارجة عنها فيسمّيها اللسانيّات الخارجيّة مثل جغرافيّة اللغات وتوزّعها بين البشر أو اللسانيّات النفسيّة أو اللسانّيات الاجتماعيّة.
-  العلاقات الجدولية والعلاقات السياقيّة: في دراسة تركيب الجملة يلاحظ دي سوسير أنّ كلّ كلمة إمّا أن تعوّض بكلمات أخرى لها نفس الدور أو  أن تكون مرتبطة بما قبلها وما بعدها من كلمات. فمثلا هذه الجملة:  "كتب الشاعر قصيدة".
كلّ كلمة ترتبط بعلاقات جدوليّة مع كلمات أخرى يمكن أن تعوّضها:

أمّا العلاقات السياقيّة فتعني علاقة كلّ كلمة مع ما قبلها وما بعدها من كلمات. فكلمة الشاعر ترتبط سياقيّا بالفعل (كتب) وبالاسم (قصيدة) وهذا السياق هو الذي يحدّد معناها. يمكننا أن ندرك الفرق بين قيمة الفعل كتب بنيويّا إذا قارنّا هذه العلاقات السياقيّة بسياق آخر مختلف في مثل هذه الجملة المختلفة (كتب الله عليكم الصيام) حيث تختلف علاقات الفعل السياقيّة فتؤدّي إلى معنى جديد.
ج- ارتباط المدارس الأروبيّة بأفكار دي سوسير:
من الملاحظ أنّ دي سوسير لم يستعمل مصطلح "البنية" فلم يشر إلى هذا المفهوم باسمه بل استعمل مصطلحات أخرى تصبّ دلالاتها في نفس التصوّر مثل الشكل والنظام والعلاقات والآنيّة. وهذا ما دفع جورج مونان إلى القول إلى أنّ دي سوسير"بنيويّ دون أن يعلم أنّه كذلك". لكن ذلك لا ينقص من فضل دي سوسير شيئا فمن الثابت أنّ دروسه أسّست كلّ المبادئ الضروريّة ووضعت الأسس الضروريّة لمفهوم البنية وكانت حدثا علميّا ومنهجيّا في مجال العلوم الإنسانيّة تسبّب في نشأة الكثير من المدارس. ويمكن أن نلاحظ ارتباط أكثر المدارس البنيويّة الأروبيّة بتفصيل مبادئ دي سوسير. ونحصي مثلا أهمّ هذه المدارس:
- مدرسة براغ: اهتمّت بمبدأ اعتبار اللغة شكلا لا مادّة وبمفهوم القيمة التمييزيّة عند دي سوسير . فكان تركيزها على الجانب الشكليّ من الأصوات سببا في تأسيس علم الصوتميّة المهتمّ بمفاهيم الصوتم والسمات الصوتميّة والقيمة التمييزيّة.
- المدرسة الوظائفيّة: اهتمّت بوظيفة التواصل في اللغة وبوظيفة كلّ عنصر  داخل نظام اللغة. واهتمّت بنظام الجملة الشكلي القائم على التقطيع الثنائيّ.(لفاظم وصواتم).
- مدرسة الغلوسيماتيك: اهتمّت بتمييز ديسوسير بين الشكل والمادّة وبين الدال والمدلول وركّزت على الجانب الشكليّ من العلامة اللغويّة فأعادت صياغته في مبادئ شبه رياضيّة.
- المدرسة النفسيّة النظاميّة: اهتمّت بالجانب النظاميّ الذهنيّ من العلامة اللغويّة وبكيفيّة تحقّقه في الكلام. فاستحضرت خاصّة ثنائيّتي الدال/المدلول واللغة والكلام.
- النحو البنيويّ عند تنيار: اهتمّ بالعلاقات السياقيّة البنيويّة بين مختلف العناصر في الجملة واستخلص وجود ضربين: علاقات بنيويّة نحويّة و علاقات بنيويّة دلاليّة .

هذه المنزلة التي تبوّأها وجعلته أبا للسانيّات الحديثة ينبغي أن لا تحجب عناّ جملة من الاحترازات أهمّها:
-  يمثّل دي سوسير المؤسّس لأوّل للبنيويّة لكنّه لم يكن يقصد هذا التأسيس، فقد عبّر عن آرائه في شكل دروس نشرها تلامذته بعد وفاته ولعلّه لم يكن يقدّر ما أحدثته من تأثير عظيم. فهو لم يستعمل مصطلح البنية وإنّما مهّد له بجملة من المبادئ الأساسيّة. هذا ما دفع جورج مونان إلى القول "إنّ دي سوسير  بنيويّ دون أن يعلم أنّه كذلك".
- تمثّل مبادئ دي سوسير أساسا متينا للبنيويّة الأروبيّة، لكنّها لا تمثّل نظريّة متكاملة أو مدرسة مستقلّة. ولعلّ تلك الآراء كانت نتيجة بديهيّة لسياق علميّ مهّد لأفكاره، ولذلك يرى جورج مونان في كتابه تاريخ اللسانيّات أنّه لم يكن وحيدا في صحراء. بل امتدادا لنزعة تستعيد مشروع نحو بورويال في تأسيس قوانين عامّة للغات. [Mounin, Histoire de la linguistique, p222].


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدرس الثاني : خصائص النظريّة اللسانيّة ومدى انطباقها على النحو التوليديّ

لتحميل الدرس في صيغة ب د ف اضغط هنا  مقدمة: في كلّ علم هناك مقابلة شائعة بين النظريّ والتطبيقيّ. وفي علم اللسانيّات نجد كلاما نظريّا عن الدال والمدلول والبنية والقيمة والشكل، والصوتم... ونجد في المقابل تطبيقات على العربيّة والانجليزيّة وسائر الألسنة. هذا التمييز لا يعني أنّ كلّ من يخوض في الخطاب النظريّ هو منظّر وصاحب نظريّة فهناك كثير من اللسانيّين يكتبون بحوثا نظريّة في اللسانيّات وينشرونها في شكل مقالات وكتب. ولكنّ عددا قليلا منهم يمكن اعتبارهم من المنظّرين. ما هو السبب في ذلك؟ ليس كلّ كلام نظريّ   يمثّل نظريّة فللنظريّة شروط وخصائص ينبغي أن تتوفّر حتّى تندرج فيها ىراء لسانيّ ما. أمّا اكثر البحوث النظريّة فقد تكون تعقيبا على نظريّة أو اشتغالا ضمنها أو نقدا لها أو تدقيقا لمفهوم. نطرح في هذا الدرس أبرز خصائص النظريّة اللسانيّة من الناحية الإيبستيمولوجيّة. وبأيّ معنى تحقّق نظريّة النحو التوليديّ هذه الخصائص. 1-   مفهوم النظرية اللسانيّة وخصائصها: إنّ مجرّد الخوض في كلام نظريّ لا يعني أنّ صاحبه بصدد التنظير. إذا كان المقصود بالتنظير هو إنشاء نظريّة فليس أمرا متاحا لجميع اللسا
الدرس الأوّل:  مدخل تاريخيّ إلى علم اللسانيّات اضغط هنا لتحميل الدرس أهداف الدرس 1- تعريف اللسانيّات: موضوعها أهمّ مفاهيمها. 2- التعرّف على أهمّ أطوار اللسانيّات ومناهجها ومدارسها وأعلامها. 3- التمييز بين أهمّ فروع اللسانيّات: * اللسانيات العامّة /علم الأصوات/ علم الدلالة/ التداوليّة. 4- التعرّف على علاقة التأثّر والتاثير بين اللسانيّات ومختلف العلوم المجاورة.                                 كلّ علم يمكن تعريفه من خلال موضوع دراسته ومنهجه ونظريّاته وأطواره وفروعه وأعلامه. واللسانيّات علم موضوعه اللغة ومناهجه ونظريّاته وأطواره متغيّرة من التاريخيّة إلى البنيويّة إلى التوليديّة إلى العرفانيّة وفروعه كثيرة منها الصوتميّة والدلالة والتداوليّة وأعلامه يتفاوتون في التأثير والأهميّة. 1- تعريف اللسانيّات: الموضوع المفاهيم المنهج الأعلام أ- موضوع اللسانيّات:  تعرّف اللسانيّات linguistique/ linguistics بأنّها الدراسة العلميّة لسائر اللّغات الطبيعيّة. وهي علم من العلوم الإنسانيّة بما أنّ اللغة خاصّية بشريّة. وقد ظهر هذا المصطلح ( linguistique