التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الدرس الثاني : خصائص النظريّة اللسانيّة ومدى انطباقها على النحو التوليديّ


مقدمة:
في كلّ علم هناك مقابلة شائعة بين النظريّ والتطبيقيّ. وفي علم اللسانيّات نجد كلاما نظريّا عن الدال والمدلول والبنية والقيمة والشكل، والصوتم... ونجد في المقابل تطبيقات على العربيّة والانجليزيّة وسائر الألسنة. هذا التمييز لا يعني أنّ كلّ من يخوض في الخطاب النظريّ هو منظّر وصاحب نظريّة فهناك كثير من اللسانيّين يكتبون بحوثا نظريّة في اللسانيّات وينشرونها في شكل مقالات وكتب. ولكنّ عددا قليلا منهم يمكن اعتبارهم من المنظّرين. ما هو السبب في ذلك؟ ليس كلّ كلام نظريّ  يمثّل نظريّة فللنظريّة شروط وخصائص ينبغي أن تتوفّر حتّى تندرج فيها ىراء لسانيّ ما. أمّا اكثر البحوث النظريّة فقد تكون تعقيبا على نظريّة أو اشتغالا ضمنها أو نقدا لها أو تدقيقا لمفهوم. نطرح في هذا الدرس أبرز خصائص النظريّة اللسانيّة من الناحية الإيبستيمولوجيّة. وبأيّ معنى تحقّق نظريّة النحو التوليديّ هذه الخصائص.
1-  مفهوم النظرية اللسانيّة وخصائصها:
إنّ مجرّد الخوض في كلام نظريّ لا يعني أنّ صاحبه بصدد التنظير. إذا كان المقصود بالتنظير هو إنشاء نظريّة فليس أمرا متاحا لجميع اللسانيّين بل تتحكّم فيه الكثير من العوامل منها حاجة العلم لتلك النظريّة وقدرتها على التفسير. إنّ فهم معنى النظريّة وأهدافها ومفاهيمها لا يمكن أن يحدث حين نعزلها عن سياقها العلميّ والتاريخي وأسباب نشأتها ومظاهر نقدها للنظريّات السابقة ومدى استفادتها منها. لذلك لا يمكن فهم نظريّة النحو التوليدي بمعزل عن سياقه الشامل.
أ‌-     التمييز بين النزعة والنظريّة والمنوال:
لكي نفهم منزلة النحو التوليديّ ضمن الأطوار الكبرى في تاريخ اللسانيّات ينبغي أن نميّز بين ثلاثة مستويات متدرّجة من التنظير، وهي النزعة النظريّة (paradigm) والنظريّة (théorie) والمنوال النظري (modèle). ونعتقد أنّ هذه المستويات  تنطبق على النحو التوليديّ وتساعد على فهم منزلته في النحو اللسانيّات الحديثة. هذه المستويات تتدرّج من العموم إلى الخصوص:
* النزعة اللسانيّة: وتسمّى أيضا البراديغم .هي مجموعة أعمال نظريّة متشابهة تشترك في مبادئ عامّة وتسيطر على التفكير اللغويّ في عصر محدّد. وعادة ما تكون كلّها مهتمّة بنظريّة محوريّة ذات تأثير في اللسانيّات في فترة محدّدة من الزمن مثل النزعة البنيويّة في النصف الأول من القرن العشرين والتي تدور حول آراء دي سوسير أو مثل النزعة التوليديّة التي سيطرت من أواخر الخمسينات إلى التسعينات وتنعقد حول أعمال شومسكي. أو مثل النزعة العرفانيّة التي انطلقت من أواخر الثمانينات إلى اليوم. إنّ النزعة تضمّ مجموعة من المنظرين في عصر واحد ومجموعة من الاعتقادات المشتركة بينهم لا تنتهي إلاّ بخروج النظريّات عن تلك الاعتقادات المشتركة إلى نزعة جديدة.
* النظريّة: مجموعة من الفرضيّات والأفكار المنسجمة فيما بينها وتمثّل نسقا متكاملا فلا قيمة لايّ مفهوم إلا بربطه ببقيّة المفاهيم. وعادة النظريّة الناجحة هي التي تكون قادرة على تفسير الظواهر اللغويّة وتقديم أجوبة واضحة عن الاسئلة التي يطرحها البحث اللساني في عصرها. ومن امثلة النظريّات الشهيرة؛ نظريّة النحو البنيويّ لتنيار ونظريّة النحو التوليديّ لتشومسكي ونظريّة النحو العرفانيّ للانقاكير... غالبا ما تكون النظريّة للسانيّ واحد يعرّف بها في منشوراته أوتكون لمجموعة من اللسانيّين يشتركون في نشرها ضمن مدرسة لسانيّة.
*المنوال النظريّ : النظريّة الواحدة يمكن أن تشهد مراحل متعدّدة تتطوّر فيها فينشر صاحبها منوالا ثمّ يغيّر فيها بعض التفاصيل بناء على ما يبدو له من تعديلات أو ما وُجّه له من نقد فينشر منوالا جديدا. ويكون المنوال أو النموذج النظريّ بذلك ممثّلا لمرحلة محدّدة ضمن مراحل متعاقبة للنظريّة.
ب‌-   تعريف النظريّة اللسانيّة:
النظريّة بصفة عامّة تكون في شكل نسق من المبادئ والأفكار والمفاهيم والمصطلحات ذات الطابع المجرّد  تكون منسجمة فيما بينها وتهدف إلى تفسير ظاهرة محدّد في ميدان مخصوص تنطبق عليه.
وقد جمع ولِّيت أهمّ التعريفات للنظريّة في العناصر التالية:
1-      نظام من القواعد التي تمثّل قوانين عامّة قائمة على منهج علميّ صارم.
2-      الترابط بين المفاهيم ترابطا داخليا فيحيل بعضها على البعض الآخر.
3-      الاعتماد على افتراضات أوّليّة تسمّى الفرضيّات. وتضطلع النظريّة بالاستدلال على صحّتها.
4-      الارتباط بهدف التفسير لظاهرة محدّدة ضمن مجال محدّد في الواقع وتوقّع مسارها أو منطق بنائها.
5-      تكون النظريّة بناء عقليّا مجرّدا يقدّم وجهة نظر علميّة للواقع تعتمد لغة المصطلحات والمفاهيم.
6-      النظريّة تمكّن من تفسير جوانب خفيّة من الظواهر المدروسة فتنطلق من ملاحظات قليلة لتخلق قوانين عامّة قابلة للانطباق على مجال واسع
ج- شروط بناء النظريّة :
تتكوّن النظريّة عادة من مفاهيم وافتراضات وقوانين يجمع بينها منهج. أمّا المفاهيم فتعبّر عنها مصطلحات خاصّة بالنظريّة وهي الأداة الرئيسيّة التي تفصح بها النظريّة عن نفسها فمثلا يفصح دي سوسير عن تصوراته النظرية باستخدام مصطلحات خاصّة بمفاهيمه واضحة مثل الدال والمدلول والشكل والقيمة والآنيّة..أمّا الافتراضات فتكون في شكل فكرة مجرّدة يفترضها اللسانيّ وهي لا تقبل التكذيب لأنّها موضوعة للاستدلال وقبولها يتوقّف على قدرتها على التفسير للظواهر المدروسة. أمّا القوانين فهي ما يخلص إليه الاستدلال من قواعد عامّة يقع تعميمها على سائر الظواهر.
أمّا المنهج فعادة نميّز بين منهجين؛ المنهج الأوّل منهج تجريبيّ؛ فيقع استقراء الظاهرة عبر سلسلة تجارب واختبارات وتحليلات ونستخلص منها استنتاجات كبرى تمثّل قواعد نظريّة(منهج استقرائي استنتاجي). وهو ما فعله بلومفيلد فمن خلال اختبار تحليل الأقوال واستخلص منها قواعد التحليل إلى المكوّنات المباشرة. أمّا المنهج الثاني فهو منهج افتراضي وهو منهج رياضيّ يعتمد الانطلاق من مسلّمات أو افتراضات حدسيّة لا دليل على صحّتها أو كذبها يستنبطها اللسانيّ كما يشاء دون عودة إلى التجربة ثمّ يقوم بالاستدلال على قدرتها التفسيرية ويستخرج من ذلك قواعد عامّة تقبل الانطباق على الظواهر المدروسة (منهج استنباطي استدلالي) وهذا ما فعله شومسكي حين افتراض وجود جهاز نحو في الدماغ متكوّن من بنية عميقة وبنية سطحيّة.
د- وظائف النظريّة اللسانيّة:
ما الذي يجعل علم اللسانيات وغيرها محتاجا إلى نظريّات جديدة تقوم بتجاوز النظريّات القديمة؟ لماذا لا نحصل على حقائق نهائيّة حول الظواهر المدروسة؟ ولم لا تحوز النظريّات نفس القدر من التأثير والاهتمام؟
إنّ أيّ علم لا يتقدّم إلاّ من خلال تعاقب النظريّات فتضطلع النظريّة الجديدة بنقد النظريّة السابقة وتأخذ منها بعض المفاهيم وقد تطوّرها وتقترح مفاهيم وتفسيرات وافتراضات جديدة. فالنظريّة لها وظائف متعدّدة وليست مجرّد عمل مجانيّ لا هدف منه. ويمكن أن نحصي جملة من الوظائف العامّة كلّما تحقّق عدد أكبر منها ازدادت النظريّة تأثيرا وشهرة:
* وظائف معرفيّة :
- الفائدة: الأجوبة التي تقدّمها النظريّة تكون ذات فائدة ونجاعة في الاستخدام العلميّ وتساهم في تقديم حلول للمشاكل المطروحة في ميدانها.
- الملاحظة: تساهم النظريّة في التركيز على جوانب محدّدة وملاحظة أهمّيتها وإبرازها على سائر الظواهر الأخرى.
- الاستكشاف: تقوم النظريّة باقتراح مفاهيم وأفكار جديدة فتكتشف جوانب غير معروفة من الظاهرة المدروسة. وبذلك يكون دور النظريّة هو البحث والتنقيب عن عناصر جديدة تساهم في تطوير العلم لم تُطرق من قبل.
* وظائف منهجيّة:
- التفسير : تقدّم النظريّة أجوبة مقنعة للإشكالات في عصرها وتحاول تقديم تفسيرا منهجيّا مقبولا لكيفيّة اشتغال الظاهرة المدروسة.
- التنظيم: النظريّة تجمع معطيات متباعدة وتعيد تنظيمها بشكل نسقيّ منسجم قادر على التفسير. وقد تكون تلك المعطيات متفرقة بين مجالات لا رابط بينها فتخلق لها إطارا منهجيّا جامعا يزيل الحدود بين العلوم.
- التوضيح: قد تكون هناك جوانب خافية في الظاهرة المدروسة أو غير مفهومة عند الدارسين فتقوم النظريّة بتوضيحها وتقديم فهم معقول لمنطق حدوثها.
- التنبّؤ: لا تقوم النظريّة فقط بتفسير ما نعرفه عن الظواهر بل يمكن أن تتكهّن بما ستؤول إليه تلك الظاهرة مستقبلا بناء على معرفتها بمنطق تطوّرها ومآلها المحتمل انطلاقا من معطيات علميّة حتميّة.
* وظائف اجتماعيّة:
- الاتصال : تحدث النظريّة نقاشا بين المهتمّين بميدان محدّد ذلك النقاش هو ضرب من الاتصال العلمي بين الباحثين في شكل مقالات وردود ومؤتمرات وخصام علميّ ينتهي بإحداث حركيّة اتّصاليّة بين أعضاء المجتمع العلميّ فتحدث بسببه تطوّرات تساهم في تطوّر العلم وانتقاله إلى مراحل جديدة واكتشافات غير مسبوقة.
- التعميم : يمكن لنتائج النظريّة أن تخرج من ميدانها لتقبل التعميم والانطباق في ميادين وعلوم أخرى مجاورة وتساهم بذلك في تبادل العلوم للمناهج والنظريات والمفاهيم وتخلق اتّصالا بين مختلف المجالات.
- التحكّم : يمكن لتأثير النظريّة أن يكون كبيرا فتتحكّم في مجالات عدّة وفي علوم مختلفة فتفرض عليها بقوّة الإقناع وسائل منهجيّة وأدوات بحث. كما أن تطبيق النظريّة يمكن أن يؤدّي إلى تغيير الواقع والتحكّم في مصير الكثيرين خاصّة تلك النظريّات التي تحدث تقنية أو وسائل عيش جديدة تغيّر نمط حياة الأفراد.
2- خصائص نظريّة النحو التوليديّ:
لنعد إلى المفاهيم السابقة ونحاول تطبيقها على نموذج النحو التوليديّ. ولنسأل السؤال التالي: إذا كانت  نظريّة النحو التوليدي بهذه الأهميّة فهل تنطبق عليها هذه التعريفات للنظريّة وشروطها وبنائها ووظائفها؟ يمكننا أن نشتقّ من هذا السؤال العامّ  أسئلة تفصيليّة كالآتي:
- أين يمكن تنزيل النحو التوليدي ضمن مستويات التنظير الثلاثة: النزعة/ النظرية/ المنوال؟
- هل تنطبق شروط تعريف النظريّة على النحو التوليديّ؟ وضمن أيّ نوع من النظريّات يمكن تصنيفه؟
- ما هي الوظائف العلميّة والمنهجيّة والاجتماعيّة التي حقّقتها نظريّة النحو التوليديّ؟
أ‌-     النحو التوليديّ هل هو نزعة أم نظريّة أم منوال نظريّ ؟
إذا عدنا إلى مستويات التنظير التي حدّدناها سابقا يمكننا أن نميّز في الدراسات التوليديّة بين نزعة اللسانيّات التوليديّة ونظريّة النحو التوليديّ و5 مناويل مختلف لهذه النظريّة:
* براديغم التوليديّة: منذ نشر شومسكي كتابه الأوّل سنة 1957 "البنى النحويّة" تحوّل اهتمام اللسانيّين إلى ما قدّمه من أفكار جديدة واستحوذت على اهتمام الباحثين وهذا ما خلق تحوّلا من النزعة السائدة التي تعرف باللسانيّات البنيويّة التوزيعيّة إلى نزعة جديدة هي اللسانيّات التوليديّة.  وهذه أوّل ميزة لافكار شومسكي فقد خلقت نزعة جديدة في مسار اللسانيات مثلما فعل دي سوسير بخلقه لمسار اللسانيات البنيويّة.
ويمكن التمييز بوضوح بين أطوار رئيسيّة متعاقبة في اللّسانيّات، تناسب نماذج كبرى في التفكير اللساني (paradigms) من بينها التوليديّة التي تتجاوز شومسكي إلى مجموع المشتغلين بنظريّته من لسانيّيين معارضين لها وأتباع مشتغلين بها وأقران مطوّرين لها. فبعد اللسانيّات التاريخيّة المقارنة فاللسانيّات البنيويّة بشقّيها الأروبيّ والأمريكيّ كان شومسكي سببا في ظهور نزعة اللّسانيّات التوليديّة قبل الانتقال إلى اللسانيّات العرفانيّة.
* نظريّة النحو التوليديّ: محور اللسانيات التوليديّة هو نظريّة شومسكي وبقطع النظر عن مختلف المراحل التي مرّت بها فإنّن هناك ثوابت أساسيّة في نظريّة شومسكي يمكن تحديدها بوضوح واهمّها أنّ هناك جهازا طبيعيّا في الدماغ اسمه النحو التوليديّ وانّه يشتغل مثل الحاسوب بطريقة رياضيّة ووفق قواعد منطقية صارمة لينتج جملا نحويّة صحيحة. ومراحل اشتغاله تبدا بالأساس وتمرّر بالبنية العميقة فالتحويل فالبنية السطحيّة وصولا إلى جاهزيّة الجملة للنطق في المكوّنين الصوتمي والمنطقي.  
* مناويل شومسكي المتعاقبة: هذه النظريّة مرّت بمراحل مختلفة كلّ مرحلة تتميّز بجوانب مخصوصة ويمكن إحصاؤها كالتالي:
- مرحلة البنى النحويّة 1957: الفرضيّات الرئيسيّة للنظريّة والأفكار الرئيسيّة
- مرحلة النظريّة المعياريّة 1965:  إقحام المكوّن الدلاليّ في النظريّة
- مرحلة النظريّة المعياريّة الموسّعة 1973: تغيير في دور المكوّن الدلاليّ
- مرحلة نظريّة العمل والربط 1980 : نظريّات فرعيّة ضمن النظريّة الرئيسيّة لتأكيد الطابع الكونيّ
- مرحلة نظريّة البرنامج الأدنويّ :بداية غقحام
يمكننا حينئذ التمييز بوضوح بين ثلاثة مستويات تتنزّل فيها النظريّة التوليديّة: اللسانيّات التوليديّة (سائر الأعمال التوليديّة عند اللسانيّين المتولّدة عن نظريّة شومسكي) والنظريّة (النحو التوليديّ كما جاء في أعمال شومسكي وتمثّله مرحلة النضج التي بلغتها النظريّة في الثمانينات) والمناويل المختلفة للنظريّة (مختلف النسخ التي مرّت بها النظريّة التي قدّمها شومسكي طيلة نصف قرن):
ب‌-   البناء النظري للنحو التوليديّ:
تمثّل نظريّة النحو التوليديّ نسقا من المبادئ والأفكار والمفاهيم والمصطلحات المنسجمة فيما بينها. وهي تشكّل نظاما لتفسير كيفيّة نشأة الجمل نحويّا في الذهن. ويمكن  تحديد أهمّ العناصر التي تعرّف هذه النظريّة كالآتي:
1-      النحو التوليديّ نظام من القواعد الرمزيّة شبه الرياضيّة ذات الطابع الرمزيّ.
2-      النحو التوليديّ جهاز طبيعيّ فطريّ يوجد في دماغ الإنسان ولا يمكن إدراكه بالتجربة بل عن طريق الافتراض.
3-      يتكوّن هذا الجهاز من مكوّنات مجرّدة تشتغل بشكل خطّي وهي : الأساس البنية العميقة التحويلالبنية السطحيّة المكوّنان الصوتميّ والمنطقي.
4-      يفسّر هذا الجهاز كيفيّة توليد الجمل ومرورها بمراحل مجرّدة مغرقة في التجريد قبل جهوزيّتها للنطق. إنّها نظريّة ذهنيّة تفسّر القدرة وليست نظريّة في الإنجاز.
5-      هذه النظريّة تستلهم طريقة اشتغال الحاسوب الذي يحتوي مدخلات ومخرجات وبينهما جهاز مركزيّ للمعالجة. فالنحو التوليديّ  أقرب إلى برنامج حاسوبيّ.
6-      النحو التوليديّ يفسّر الخاصّية الإبداعيّة للغة ويقدّم القوانين التي يراها قادرة على الإجابة عن سؤال لماذا يسمع الإنسان عددا محدودا من الأقوال في صغره ثمّ  يصبح قادرا على إنتاج عدد غير محدود من الأقوال الجديدة.
ج- المنهج المستخدم في نظريّة النحو التوليديّ :
اعتمد شومسكي على منهج افتراضيّ لا تجريبيّ في بناء نظريّته. والمنهج الافتراضي كما رأينا منهج رياضيّ يعتمد الانطلاق من مسلّمات أو افتراضات حدسيّة لا دليل على صحّتها أو كذبها. وقد اعتبر شومسكي أنّ جهاز التحو التوليديّ يتكوّن افتراضيّا من ثلاثة مكوّنات: المكوّن التركيبيّ (نجد فيه البنيتين العميقة والسطحية) ثم المكوّن الصوتمي والمكوّن المنطقيّ. هذه البنية الثلاثيّة استنبطها شومسكي من خياله دون عودة إلى التجربة وقد قام في أعماله بالاستدلال على قدرتها التفسيرية قاستخرج منها قواعد نشأة الجملة وقواعد ملئها بالصوت ثمّ بالدلالة قبل أن تصبح قابلة للنطق بها.
 د- أهمّ الوظائف التي حقّقتها النظريّة اللسانيّة وتبوّأت بها المكانة الأبرز في اللسانيّات:
بلغ النحو التوليديّ منزلة عالية في تاريخ اللسانيّات وهو لا يزال يتبوّأ هذه المكانة إلى اليوم ولا تكاد تجد نظريّة تنازعه شهرة وتأثيرا. وإذا طبّقنا المعايير التي ذكرناها سابقا في تحديد وظائف النظريّة اللسانيّة يمكن أن نحصي جملة من الوظائف الكبرى التي نجحت النظريّة التوليديّة في تأديتها وكانت سببا في شهرتها وتعاظم تأثيرها:
* وظائف معرفيّة :
- الفائدة: النحو التوليديّ توصّل لنتائج باهرة في مجال السانيّات وقد استثمر تلك النتائج الحاسوبيّون ليطوّروا تصوّراتهم في الذكاء الصناعي مستعملين المفاهيم التوليديّة. 
- الملاحظة: ساهمت النظرية التوليديّة في الكشف عن جوانب جديدة في النشاط اللغوي. وهي الجوانب الذهنيّة التي طالما استثناها البنيويون الأمريكيّون خاصّة، معتبرين الذهن وما يتّصل به من معنى خارج اهتمام اللسانيات. وقد كان للنظرية التوليديّة فضل كبير في عودة الاهتمام بموضوع المعنى رغم أنّها لم توليه دورا رئيسيّا.
- الاستكشاف: ساهمت النظرية التوليديّة في استكشاف جوانب غير معروفة من الظاهرة اللسانيّة. ومن أهمّها الطريقة شبه الرياضية في صياغة القوانين اللسانية والاهتمام بالمتكلم المثالي باعتباره يملك جهازا طبيعيّا يتصل بالنشاط اللغويّ. وتسبّب الاهتمام المتزايد بهذه النظريّة في اقتراح نظريّات كثيرة تحاول تفسير مختلف مظاهر النشاط اللغويّ.
* وظائف منهجيّة:
- التفسير : قدّمت النظريّة التوليديّة اعتمادا على فرضياتها تفسيرا مقبولا للطريقة التي يشتغل بها الدماغ في نشاطه اللغويّ. وكانت أجوبته ثوريّة بالنظر إلى ما رسخ من اعتقادات لسانيّة ظلّت تحصر النحو في الكلام المنجز.
- التنظيم: النظريّة التوليديّة تجمع معطيات ومفاهيم متباعدة منها ما هو رياضي وما هو منطقيّ وما هو بيولوجي وما هو حاسوبيّ وقد أعاد شومسكي الربط بينها ضمن نسق نظريّ متكامل. وصار مؤثّرا بشكل كبير في الكثير من النظريات الأخرى.
- التوضيح: إن السؤال الكبير الذي أراد شومسكي الإجابة عنه هو: ما الذي يحدث داخل الدماغ حتى نستطيق الكلام بشكل صحيح؟ وقد نجح في تقديم جواب طريف ومقبول علميّا سرعان ما التقطه الابحثون وصاغوا حوله آلاف الصفحات شرحا ونقدا واعتراضا وتثمينا.
* وظائف اجتماعيّة:
- الاتصال : أثار النحو التوليديّ نقاشا حادّا بين عدد كبير من اللسانيّين. وقد ساهم هذا النقاش في غثارة حيوية علمية كبيرة من خلال الكم الكبير من الكتب والمقالات التي كتبت تفاعلا مع هه النظريّة. وبذلك كان النجو التوليدي مساهما في الدفع باللسانيات على آفاق رحبة جديدة.
- التحكّم : لقد بلغت نظرية النحو التوليدي من التأثير ما جعلها تتحكّم في اتجاهات البحث اللسانيّ وساهمت بقدر كبير في ظهور أنماط جديدة من النظريّات منها النظريات الدلالية التوليدية والنظريات الوظيفية والنظريات العرفانية. كما أن تأثيرها بلغ الذكاء الصناعي الذي استثمر بعض المفاهيم التوليدية في تطوير الحاسوب.
خلاصة :
   لا يمكننا أن نستوعب نظريّة النحو التوليديّ دون ربطها بسياقها الإبستيمولوجيّ. وقد تأثّرت في مفاهيمها الأساسيّة بالبيئة العلميّة السائدة فاقترضت منها المصطلحات والأفكار والمفاهيم والمناهج والأفكار.وهذا شأن كلّنظريّة لسانيّة فمع تغيّر البيئة العلميّة تتغيّر النظريّات وتتطوّر لتتلاءم مع محيطها العلميّ الجديد. لهذه الأسباب اعتبرنا بناء نظريّة في اللسانيّات ليس مسألة عبثيّة بل خاضعة لشروط ينبغي توفّرها كلّها أو بعضها وهي أساسا (فرضيّات، مبادئ، مفاهيم، منهج، قواعد، قدرة تفسيريّة، تعميم). ولا تعكس في غالبها حقيقة في الواقع بقدر ما تعكس وجهة نظر صاحبها وهذا ما يفسّر تعدّد النظريّات حول ظاهرة واحدة في زمن واحد أو في أزمنة متعدّدة. وغالبا ما تقوم النظريّة الجديدة على أنقاض نظريّة سابقة بسبب اكتشافها لحدودها. فتعدّد النظريّات سببه تعدّد زوايا النظر إلى المسألة الواحدة أو اختلاف المجالات أو اختلاف الاختصاصات واختلاف المناهج.




تعليقات

  1. بارك الله فيك دكتور، أروجو إمدادي بمرجع عن شروط بناء النظرية ووظائف النظرية اللسانية، لأني أحتاجها في التوثيق.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدرس الثاني : اللسانيّات البنيويّة ومفاهيمها الأساسيّة

تحميل الدرس بصيغة ب د ف من هنا  اللسانيّات علم يتنزّل ضمن مستوين متفاعلين: مستوى داخليّ ضمن علم اللسانيّات؛ يتعلّق بتطوّر النظريّات والمدار س اللسانيّة فتولد النظريّات الجديدة انطلاقا من المآزق التي تصل إليها النظريّات القديمة، فكلّ نظريّة تمثّل نقدا للسابق وإضافة جديدة لا تقطع نهائيّا مع ما قبلها من تصوّرات. أمّا المستوى الثاني فخارجيّ يتعلّق بوجود صلة بين اللسانيّات وسائر العلوم المجاورة وقوامها علاقة تأثّر وتأثير بينهما. ذلك أنّ اللسانيّات تتأثّر بما يحدث في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها وهي في نفس الوقت تؤثّر في سائر العلوم الإنسانيّة من نقد وإنشائيّة وأنتروبولوجيا. ضمن هذين المستويين يمكن أن ندرس آراء دي سوسير المؤسّسة للبنيويّة. 1- الخلفيّات الفكريّة والعلميّة لظهور اللسانيّات البنيويّة : بالعودة إلى كتاب سوسير المؤسّس "دروس في الألسنيّة العامّة" يمكن أن نلاحظ وجود مؤثّرات مختلفة تتعلّق من جهة أولى بما كان سائدا في الدراسات اللسانيّة قبله. وبما كان يسود في عصره من مناهج ومفاهيم في سائر العلوم. أ- نقد المنهج التاريخي المقارن : كانت اللسانيّات في
الدرس الأوّل:  مدخل تاريخيّ إلى علم اللسانيّات اضغط هنا لتحميل الدرس أهداف الدرس 1- تعريف اللسانيّات: موضوعها أهمّ مفاهيمها. 2- التعرّف على أهمّ أطوار اللسانيّات ومناهجها ومدارسها وأعلامها. 3- التمييز بين أهمّ فروع اللسانيّات: * اللسانيات العامّة /علم الأصوات/ علم الدلالة/ التداوليّة. 4- التعرّف على علاقة التأثّر والتاثير بين اللسانيّات ومختلف العلوم المجاورة.                                 كلّ علم يمكن تعريفه من خلال موضوع دراسته ومنهجه ونظريّاته وأطواره وفروعه وأعلامه. واللسانيّات علم موضوعه اللغة ومناهجه ونظريّاته وأطواره متغيّرة من التاريخيّة إلى البنيويّة إلى التوليديّة إلى العرفانيّة وفروعه كثيرة منها الصوتميّة والدلالة والتداوليّة وأعلامه يتفاوتون في التأثير والأهميّة. 1- تعريف اللسانيّات: الموضوع المفاهيم المنهج الأعلام أ- موضوع اللسانيّات:  تعرّف اللسانيّات linguistique/ linguistics بأنّها الدراسة العلميّة لسائر اللّغات الطبيعيّة. وهي علم من العلوم الإنسانيّة بما أنّ اللغة خاصّية بشريّة. وقد ظهر هذا المصطلح ( linguistique