التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الدرس الأوّل: المفاهيم اللسانية الأساسيّة الممهّدة لنظريّة النحو التوليديّ


لايمكن لنا أن ندرس القضايا النظريّة في علم اللسانيات ومختلف مدارسها المتنوّعة وخصائص نظريّة "النحو التوليدي" دون أن نتسلّح بحدّ أدنى من المفاهيم اللسانيّة الأساسيّة.
ونطرح في هذه المقدّمة جملة من الأسئلة التمهيديّة منها: ماذا نقصد بعلم اللسانيات؟ وما هي أبرز المفاهيم النظريّة والمنهجيّة المؤسّسة له والمؤثّرة فيه؟ وما هي أهمّ مدارسه وأعلامه وأطواره الكبرى؟ وأين يمكن أن ننزّل موضع النظريّة التوليديّة من تاريخ علم اللسانيّات؟ نقترح للإجابة عن ذلك تقديما لأهداف درسنا وتخطيطه ومراجعه، دون أن ننسى تذكيرا سريعا بحصيلة المفاهيم الأساسيّة في علم اللسانيات التي سنحتاجها لتنزيل النحو التوليدي ضمن مسار هذا العلم.
1- تقديم عام للدرس:
يتناول درسنا مفهوم النظريّة اللسانيّة عموما متّخذا النحو التوليديّ نموذجا للتمثيل. ونحصر تناولنا لهذا الموضوع بجملة من الأهداف الرئيسيّة نحرص على تحقيقها في عناصر محدّدة.
أ‌-       أهداف الدرس:
* فهم أسس النظريّة اللسانيّة :
 لا شكّ أنّ مسار تطوّر كلّ علم يقوم على تتابع جملة من النظريّات ينقد اللاحق منها السابق ويولد بعضها من رحم المآزق التي تصل إليها البعض الآخر. ولا شكّ أنّ كلّ نظريّة تقوم على جملة من الفرضيّات والمبادئ والقواعد وتستخدم جملة من المصطلحات والمفاهيم لتطرح فكرة جديدة تفسّر بها ظاهرة ما تفسيرا علميّا مقنعا. لكنّ النظريّات بين مختلف العلوم يستفيد بعضها من بعض رغم ما بين الاختصاصات من حدود تقليديّة. ونهدف من خلال درسنا إلى الخروج بفكرة عامّة حول الطريقة التي تبنى بها النظريّة اللسانيّة ومدى استفادتها من العلوم المجاورة خاصّة من جهة بناء مفاهيمها وكيفيّة طرح أفكارها حول الظواهر اللسانيّة وفق أسس تجريبيّة أو شكليّة مجرّدة وكيفيّة استفادتها من النظريّات السابقة وإثارتها للنقاش مع النظريّات المنبثقة عنها.
* فهم أساسيّات النظرية التوليدية:
يمثّل النحو التوليديّ أحد أبرز النظريّات المؤثّرة في تاريخ اللسانيّات إن لم تكن أبرز نظريّة على الإطلاق. وتحقّق هذه النظريّة ضمن مجموعة من المصطلحات والمفاهيم والأفكار والنظريّات الفرعيّة والنماذج المتتابعة. لكنّنا نطمح في الدرس إلى تبيّن الخصائص الأساسيّة لهذه النظريّة والتعرّف على مبادئها الأساسيّة ومنطلقاتها والمصطلحات والمفاهيم التي تنبني عليها. وليس من أهدافنا الدخول في المفاهيم التفصيليّة وما تتطلّبه من معادلات وصياغات مغرقة في التجريد وما تثيره من قضايا تطبيقيّة. فهدفنا هو الخروج بفكرة عامّة تستوعب أساسيّات نظريّة النحو التوليديّ دون الإغراق في تفاصيلها المدقّقة.
* تقييم منزلة نظرية النحو التوليديّ في اللسانيّات الحديثة:
 لا شكّ أنّ شومسكي أبدع نظريّته بناء على ما رآه من تقصير في النظريّات اللسانيّة السائدة وما قدّمه من نقد علميّ لها. ولا شكّ أيضا أنّ نظريّته تسبّبت في ظهور نظريّات معارضة له أو مساندة لأفكاره، بل إنّه اضطرّ في كلّ مرّة إلى تطوير نظريّته وتقديم نماذج جديدة لنظريّته آخذا بعين الاعتبار النقاش الذي طرحه أنصاره ومعارضوه. ولذلك لا يمكن أن ننظر إلى هذه النظريّة بمعزل عن المنطق الإيبستيمولوجيّ المتحكّم في تطوّر النظريّات اللسانيّة والدور المحوريّ الذي لعبته نظريّة شومسكي بمختلف نماذجها المتطوّرة في غثراء المشهد اللسانيّ والدفع به إلى تطوّرات جديدة.
* فهم المنطق الإبستيمولوجيّ المحرّك لتطوّر النظريّات اللسانيّة:
لا تنشأ النظريّات اللسانيّة من فراغ ولا يقع تجاوزها عبثا بمجرّد ظهور نظريّات جديدة فاللسانيّات علم يتطوّر بما تبدعه عبقريّة اللسانيّين من نظريّات طريفة قادرة على التفسير لكنّه كذلك يخضع لمؤثّرات عصره ويعكس بصورة ما منطقا إبستيمولوجيّا تتداخل فيه تأثيرات العلوم المجاو
رة من فلسفة ومنطق وعلم نفس وبيولوجيا وحاسوبيّة وعلوم عرفانيّة. وتعكس نظريّة النحو التوليديّ جملة من المؤثّرات في عصرها وهي تمثّل إجابة نظريّة عن أسئلة ومشا
ب‌-   تخطيط الدرس:
نقترح تخطيطا للدرس يحقّق ما رسمنا أعلاه من أهداف. وهو يقوم على أربعة محاور أساسيّة:
مقدّمة: المفاهيم اللسانيّة الأساسيّة الممهّدة للنحو التوليديّ:
يهدف هذا الدرس إلى التذكير بالمكتسبات السابقة للطالب خاصّة ما يتعلّق بالمفاهيم البنيويّة الأساسيّة. وتمثّل مفاهيم دي سوسير في هذا الخصوص منطلق اللسانيّات الحديثة. وهي تمثّل منطلقا للنظريّات اللسانيّة الأروبيّة المنتمية إلى التيار البنيويّ وإذا كانت هذه المفاهيم تركّز على الجانب النظاميّ من الظاهرة اللغويّة (اللغة) فإنّ الشقّ الأمريكيّ من النظريّات البنيويّة يركّز في المقابل على الجانب المنجز (الكلام) . وهذا التركيز هو الذي دفع شومسكي لاقتراح نظريّة تعيد الاهتمام بالجانب النظامي الذي يحدث في ذهن الفرد (الكفاية).
بنية النظريّة اللسانيّة: إلى أيّ نمط من النظريّات ينتمي النحو التوليديّ؟
لا يمكن لأيّ أفكار يقدّمها اللسانيّ أن تمثّل في حدّ ذاتها نظريّة. بل ينبغي أن تكون أفكاره تخضع لضرب من البناء النظري المنسجم لتمثّل جهازا متناسقا من المبادئ والمفاهيم القواعد المتناسقة القادرة على تفسير مظهر محدّد من اللغة. ومن جملة أجيال اللسانيين الذين ينشرون أفكارهم في كل طور من أطوار اللسانيات يوجد عدد محدود جدا من اللسانيين الذين قدّموا نظريّة متكاملة وتعتبر نظريّة النحو التوليديّ من بين أشهر هذه النظريّات وأكثرها تأثيرا. فما هي شروط بناء النظريّة في اللسانيّات؟ وضمن أيّ نوع من النظريّات يمكن تصنيف النظريّة التوليديّة؟
النحو التوليديّ وأسسه النظريّة.
يقوم النحو التوليديّ على جملة من المبادئ النظريّة التي تفسّر سبب ظهوره وأهداف صاحبه. وهو يعبّر عن تلك المبادئ من خلال مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي تمثّل في النهاية حصيلة النظريّة ومعالم النسق النظري المتكامل. فما هي أبرز خصائص هذه النظريّة وما هي أبرز معالمها وما هي شبكة المفاهيم التي تحقّقها؟ وكيف تطوّرت من مرحلة إلى أخرى؟
مبدئيّا يمكن أن نحصر هذه الأسس في العناصر التالية:
- نقد تركيز البنيوية التوزيعيّة على وصف الجانب الإنجازيّ (الكلام) دون تفسيره.
- الاهتمام بتفسير ما يحدث في الذهن من توليد الجمل بدل وصف الأقوال المنجزة.
- الاعتماد على منهج افتراضي رياضيّ يقدّم مسلّمات وفرضيّات وصياغة مجرّدة للمبادئ وتعميمها على سائر اللغات (نحو كونيّ).
- تنظير يستفيد من مفاهيم العلوم الأخرى (المنطق والرياضيات والحاسوبيّة وعلم النفس والبيولوجيا).
- التركيز على الجانب الشكلي في تصور النحو واعتباره جهازا بيولوجيا مولّدا للجمل الصحيحة نحويّا.
السجال العلميّ بين النحو التوليديّ وسائر النظريّات اللسانيّة:
لم تكن نظريّة النحو التوليديّ مجرّد نسق نظريّ نشر في كتاب وترك للنقاش بل تتميّز بميزة يندر أن تجد لها مثيلا في سائر النظريّات، فقد نشر شومسكي آراءه بناء على نقد المدرسة التوزيعية السائدة، وتفاعل مع النقاش الذي أثارته أفكاره فعاد إلى نظريّته وطوّرها ولم ينقطع عن الفاعل المستمرّ مع ما برز من نقاش ونظريّات معارضة له فكان في كلّ مرّة يبسط تنقيحا أو تعديلا أو إضافة أو تغييرا جوهريّا في نظريّته. ولذلك عدّ النحو التوليديّ من أبرز النظريّات التي تسبّبت في نقاش خصب وتطوّرات كبيرة في الحقل اللسانيّ. فما هي أبرز ملامح هذا السجال العلميّ؟
ج- منهج تناول الدرس:
نقترح جملة من الاختيارات المنهجيّة في تناولنا لمفهوم النظريّة اللسانيّة من خلال النحو التوليديّ، ويمكن أننوجزها في العناصر التالية:
* المراوحة بين تحليل نصوص شومسكي والمراجع المفسّرة له والأمثلة العربيّة:
نركّز في تناولنا للمحاور الأساسيّة المذكورة أعلاه على ربط أفكار شومسكي بأمثلة من العربيّة تساعد على تبيّن ما يقصده من مفاهيم.. ونراوح في تناولها لما تطرحه من قضايا بين مساءلة نصوص شومسكي وتحليلها واستعراض الخصائص النظريّة لأفكاره كما وردت في الدراسات المتّصلة بها. هذا الجمع بين الاشتغال على النصوص والأمثلة والدراسات النظريّة يهدف إلى تحقيق القدرة على التعامل مع النصوص اللسانيّة بالتحليل والنقاش والتقييم عند الطالب وتدريبه على  كيفيّة استثمار المفاهيم اللسانيّة والربط بينها ربطا نقديّا يمكّنه من التفطّن إلى الخلفيّات العلميّة المحيطة بالنظريّة. فلا يكون مجرّد متقبّل سلبيّ لها.
* التمييز بين المصطلح والمفهوم والفكرة:
·       يمكن أن نميّز في تعاملنا مع مادّة الدرس بين المصطلح  (terme) والمفهوم (concept) والفكرة (idée). هذا التمييز يمكن أن يساعدنا منهجيّا في تناولنا للنصوص والدراسات اللسانيّة بما في ذلك الدراسات التوليديّة: 
- المصطلحات: الكلمات التقنيّة التي يستخدمها اللسانيّون مثل "دال/مدلول/ صوتم/ صرفم/ قيمة/شكل/بنية..." عند البنيويين و"توليد/ تحويل/ بنية سطحية/ قدرة/ إنجاز/ شكل صوتمي..." في التوليديّة.  إنّ اللسانيّات مثل كلّ علم يعتمد كثيرا على المصطلحات ويعطي مفهوما لكلّ مصطلح ولا بدّ من التثبّت عند ترجمة مصطلحات شومسكي خاصّة أنّ المصطلح الواحد في اللسانيّات يمكن أن نجد له في الدراسات العربيّة أكثر من ترجمة عند أكثر من مترجم. فمثلا phonème تترجم بـ: صوتم أو  فونيم. ومصطلح " signe" يترجم بعلامة أو دليل وعلم اللسانيّات نفسه (linguistique) قد يترجم بألسنيّة أو علم اللغة أو ألسنيّة.
- المفاهيم: كل مصطلح يرتبط بمفهوم. أي بالمضمون النظريّ الذي يحمله ذلك المصطلح ويربطه بنظريّة معيّنة. فمثلا مصطلح بنية نجد له مفهوما محدّدا عند البنيويين ومفهوما مختلفا عن التوليديين أو العرفانيّين. هذا المضمون النظري لا تقدمه المعاجم اللغوية بل المعاجم المختصة في اللسانيات والدراسات اللسانيّة. فمثلا لا يمكننا أن نحدّد المفهوم الذي يرتبط بمصطلح "مدلول" (signifié) بمعجم لغويّ مثل لسان العرب فنقول إنّه اسم مفعول يدلّ على ذات وقع عليها الفهم بل علينا العودة إلى دي سوسير مؤسّس هذا المفهوم أومعجم اللسانيّات لديبوا لندرك أنّه يعني "الصورة الذهنيّة المجرّدة التي ترتبط بمعنى كلمة ما".
- الأفكار : ما الذي يجعل نظرية تخلق نسقا من المفاهيم المترابطة؟ إنّها الأفكار؛ كل نظريّة هي فكرة متناسقة أو أفكار متناسقة وليست قواعد مسطّرة لا يأتيها الخطأ. العلم في النهاية مجموعة أفكار مبنيّة وفق أسس علميّة وليست مجرّد خواطر. وحين نريد فهم نظريّة علينا أن نستوعب أفكارها ونستوعب الأفكار التي عارضتها والأفكار التي تولّدت منها. إنّ تاريخ أيّ علم حتى وإن كان اللسانيات هو تاريخ أفكار متجادلة ومناهج متقابلة: كالتقابل بين المنهج الزماني والمنهج الآني والفارق بين منهج الوصف عند التوزيعيّين ومنهج التفسير عند التوليديّين.
د – قراءة نقديّة في المراجع المعتمدة في الدرس:
نعتمد في درسنا على مجموعة من المصادر والمراجع يمكن أن نصنّف وجه الاستفادة منها إلى ثلاثة أضرب:
* نصوص شومسكي الأصليّة: إنّ أول خطوة يمكنها أن تسهّل الوصول إلى النظريّة وفهم طريقة بنائها هي التعامل المباشر مع نصوص شومسكي. لكنّ ترجمة هذه النصوص بالعربية لا تفي بالغرض سواء من جهة استيعاب مؤلفات شومسكي المهمّة أو من جهة نوعيّة الترجمة التي قلّ أن تكون ترجمة واضحة مناسبة للأفهام عند المتلقّي العربيّ. وسنعتمد على جملة من النصوص الأصليّة المترجمة المقتطفة من أبرز مؤلفات شومسكي. وأبرزها كتاب البنى النحويّة. وكتاب اللغة ومشكلات المعرفة.
* مراجع تقدّم فكرة عامّة عن النحو التوليدي: ونفضّل الاطلاع على هذه المراجع أوّلا لأنّها تعطي فكرة عامّة وتمهّد السبيل لفهم خلفيات النظرية وخطوطها الكبرى.
* مراجع تقدّم فكرة جزئيّة حول نظريّة شومسكي: وأكثر المراجع تبدو لنا على هذه الحال. وهي تتناول إمّا فترة محدّدة من تاريخ تطوّر هذه النظريّة أو تركّز على جزء محدّد من المفاهيم والمبادئ التوليديّة.
وينبغي أن ننتبه في تعاملنا مع هذه المراجع إلى جملة من الصعوبات والاختيارات الأساسيّة في درسنا أهمّها:
* اعتماد التراجم العربيّة على مصطلحات غير دقيقة وتتسم بالاختلاف بين المترجمين. كما أنّها كثيرا ما تعتمد على المثال الانجليزي الأصليّ دون أن توضّح وجه الاستفادة منه في العربيّة.
* نجد أكثر المراجع تستند إلى اختيارات اصطلاحيّة في المدرسة المغربية وهي تهتمّ كثيرا بالنحو التوليدي امتدادا لأعمال الفاسي الفهري في تطبيقاته للنظريّة على النحو العربيّ. لكنها تعتمد على مصطلحات لا تتوافق غالبا مع الاختيارات الاصطلاحية في الجامعة التونسيّة. ولذلك ينبغي أن نراعي هذا الاختلاف.
* نهتم بنصوص شومسكي الأصلية مراوحين بين ما كتب باللغة الاجليزية أو ما نترجمه نحن أو ما نجده مترجما لنكرّس فكرة لدى الطالب قوامها ضرورة أن يثق في قدرته على الاطلاع على النصوص في لغتها الأصليّة، لأنّها ليست بالقدر الذي يتوهمه من الصعوبة.
* سنختار من بعض المراجع فصولا محدّدة نوجّه لها اهتمام الطالب اقتصادا في الجهد واجتنابا للتفاصيل التي يمكن أن لا ينسجم أوان الاطلاع عليها مع أهداف الدرس.
2- مراجعة لحصيلة المفاهيم اللسانيّة السابقة للنحو التوليديّ:
النظريّة التوليديّة تنتمي إلى علم اللسانيّات الحديث. وقد انتقلت اللسانيّات إلى طورها الحديث على يد دي سوسير ومن تبعه من اللسانيّين الأروبيّين بتطبيق مبادئه إلى ما بعد النصف الثاني من القرن العشرين. وشهدت اللسانيّات الحديثة طورا مهمّا من أطوار التفكير اللغويّ لا يقل تأثيرا عن تاثير دي سوسير وربّما أكثر تاثيرا منه وهو نظرية النحو التوليديّ التي هيمنت في النصف الثاني من القرن العشرين ولا تزال تؤثّر في الدراسات اللسانيّة.
وينبغي أن نفهم التطوّرات الإبستيمولوجية التي شهدتها اللسانيّات لنفهم هذا منطق الانتقال في مراكز التأثير والاهتمام من المبادئ السوسيريّة وصولا إلى المدرسة التوليديّة حتّى نتمكّن من تنزيل النظريّة التوليديّة ضمن موقعها التاريخي من تاريخ علم اللسانيات الحديث.
أ‌-        مبادئ دي سوسير تؤّسس المفاهيم الأساسيّة للسانيّات الحديثة:
استطاع دي سوسير أن يحدث بدروسه تأثيرا عظيما في المدارس اللسانيّة الأروبيّة من خلال ما تبنّته النظريات اللسانية من مبادئه ومفاهيمه النظريّة. ويمكن أن نحصي أبرز ما جاء فيها من خلال الثنائيات المفهوميّة التالية:
* الشكل/ المادّة: ينبغي للسانيات أن تنظر للّغة على أنّها شكل لا مادّة، فلا تهتمّ بالأصوات الفيزيائيّة والفروق بينها وطرق نطقها ولا بالكتابة الملموسة بل بالجانب النظاميّ الشكلي المجرّد. مثلها في ذلك مثل لعبة الشطرنج؛ لا يهتمّنا بأيّ مادّة صنعت الخشب أو البلاستيك أو غيره بل يهمّنا النظام والعلاقات الكائنة بين أجزاء اللغة.
* اللغة / الكلام : يوجد اللسان في مستويين: مستوى اجتماعي مشترك بين الأفراد يمثّل نظام اللغة وهو عبارة عن تعاقد جماعي على قوانين اللسان من نحو وصرف ومعجم. أمّا المستوى الثاني ففردي ويتعلق بالأقوال الي ينتجها كل فرد انطلاقا من ذلك التعاقد.
* الآنية / الزمانيّة : لا ينبغي الاكتفاء بالبحث التاريخي في تطوّر نظام اللغة بل ينبغي اعتبار النظام الحالي للغة قابلا للوصف اللساني. من هنا كانت الزمانية منهج بحث في التطور التاريخي. أما الآنيّة وصف راهن للنظام دون اعتبار لما كان عليه.
* الدال/ المدلول: كانت معظم أعمال دي سوسير مهتمة بالجانب الشكلي للكلمة وهذا ما انعكس على النظريّات الأروبيّة فكثير منها اهتمّ بالبنية الشكليّة للدال (لفظم) وتقسيمه إلى صواتم. وتقسيم الصوتم إلى سمات تمييزيّة. لكن من الملاحظ أنّ الجانب الدلالي يقع استحضاره بالقدر الذي يخدم البنية الشكليّة للكلمة. فمثلا يمكن اعتبار الكلمتين "تبن" و"بنت" بنيتين مختلفتين لأنّها يتّصلان بمدلولين مختلفين، لكنّ "" سَلْ" و"ااِسْأَلْ" بنية واحدة لأنّهما يدلّان على المدلول نفسه.
اتّبعت اللسانيات البنيوية الأروبيّة في أكثر مدارسها المبادئ النظريّة السوسيرية وهي تركّز على الجانب النظامي للغة) دون الجانب الإنجازيّ (الكلام)، كما أنّها تركّز على الطابع الشكليّ لنظام اللغة من خلال مفاهيم البنية والصوتم والتحليل الصوتمي والقيمة التمييزية. في المقابل كانت البنيوية الأمريكيّة أقلّ تأثّرا ببنيوية دي سوسير.
ب‌-     البنيويّة الأمريكيّة تركّز على الجانب الإنجازي من اللغة:
نشأت البنيويّة الأمريكيّة بالتوازي مع البنيويّة الأمريكيّة وبمعزل عن تأثير مبادئ دي سوسير. لكنّها تميّزت بتركيزها على الجانب الإنجازي من اللغة (الكلام). ويظهر ذلك أساسا من خلال مدرستين كبيرتين: أمّا الأولى  أبرز فمن يمثّلها إدوارد سابير 1921 صاحب مدرسة البنيويّة الأنتروبولوجيّة التي ركّزت على دراسة اللغات الهنديّة وخصائصها الثقافية. وتوصّل سابير من خلالها إلى اختراع مفهوم الصوتم. وأمّا الثانية فنشأت على يد ليونارد بلومفيلد (1933) وهو الذي يعتبر أبو اللسانيّات الأمريكيّة وصاحب التأثير الأكبر وهو الذي اقترح فكرة تحليل المستويات اللغويّة في القول ومفهوم المكوّنات المباشرة في الجملة تلك الفكرة التي قادت إلى اقتراح منهج التحليل باعتماد الأقواس واعتماد الصناديق النحويّة. وتتميّز المدرسة البنيويّة التوزيعيّة بجملة من السمات من أبرزها شدّة حرصها على تقديم وصف دقيق وصارم للبنية في القول انطلاقا من وحدة الجملة وصولا إلى مفهوم الصرفم ثمّ الصوتم. لنأخذ لذلك مثلا:
"كتب شاعر الثورة قصيدة مؤثّرة" هذا القول يمكن تحليله إلى مكوّنات المستوى المباشر:1- كتب/ 2- شاعر الثورة/ 3- قصيدة مؤثّرة. وكلّ مكوّن يمكن تحليله إلى مكونات فرعيّة إلى أدنى مكوّن (1- ك/ت/ب)  ( 2- شاعر/الثورة (الـ/ثورة) 3- قصيدة (قصيد/ة)/مؤثّرة (مؤثر/ة) 
ج- شومسكي ينتقد التركيز على الجانب الإنجازي من اللغة:
برزت طرافة آراء شومسكي من خلال انتقاده لتركيز التوزيعيّين على وصف الجانب المنجز في الأقوال. فقد اعتبر أنّ ذلك التركيز لن يتقدّم باللسانيّات، لأنّنا لا نحتاج إلى أن نعرف بنية القول المنجز بقدر حاجتنا إلى تفسير كيفيّة توليده في الذهن. واقترح الاستفادة من المناهج في العلوم الصوريّة لاستنباط طريقة جديدة في تفسير كيفيّة نشأة الأقوال في الذهن وتوليدها قبل النطق بها. ويمكن أن نشرح أهمّما قدّمه إضافات من خلال المثالين التاليين:         (1) كَتَبَ شاعر الثورة قصيدة مؤثّرة.
                                      (2) قصيدةُ مؤثّرةٌ كٌتِبتْ من قبل شاعر الثورة.
هذا قولان أحدهما مبنيّ للمعلوم (1) والثاني مبنيّ للمجهول (2). عند التوزيعيّين كلّ قول يحمل توزيعا مختلف (بنية نحويّة شكليّة) فنحصل مثلا بطريقة الصناديق على تحليلين مختلفين. حاول هاريس تلميذ بلمفيد أن يبيّن أنّ هذين المثالين يعودان إلي نفس الأصل. فالقول (2) محوّل عن القول (1) فكأنّ القولان لهما بنية واحدة إلا أنّنا قمنا بتحويل بعض مكوّنات المبنيّ للمعلوم بعمليّة استبدال لنحصل على المبنيّ للمجهول.
هذا الرأي استفاد منه شومسكي (تلميذ هاريس) لكنّه نقله إلى مستوى نظريّ جديد أحدث به ثورة في اللسانيّات. ويمكن تلخيص ما جاء به في النقاط التالية:
- تعود الأقوال المنجزة تعود في الأصل إلى جهاز فطريّ في الذهن يولّدها وينبغي أن ندرس ذلك الجهاز لا الأقوال.
-  اقتراح دراسة ما يحدث في ذهن الفرد عند نشأة الجملة  بالتركيز على الجانب الشكلي الصارم.
- يتكوّن جهاز النحو من مستويين: مستوى أوّليّ (البنية العميقة) ومستوى محوّل عنه، مشتقّ منه (البنية السطحيّة). ويمكن أن نمثّل للأوّل بالمبنيّ للمعلوم وللثاني بالمبنيّ للمجهول. (النحو= بنية عميقة تحويل بنية سطحيّة)
من الواضح أنّ شومسكي قد بنى تصوّره على نقد المدرسة البنيويّة وتركيزها على الجانب الوصفي لكنه في المقابل اعتمد على بعض المفاهيم السابقة ليقدم مقترحاته الجديدة مثل التركيز على الطابع الشكلي واعتماد مفهوم التحويل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدرس الثاني : اللسانيّات البنيويّة ومفاهيمها الأساسيّة

تحميل الدرس بصيغة ب د ف من هنا  اللسانيّات علم يتنزّل ضمن مستوين متفاعلين: مستوى داخليّ ضمن علم اللسانيّات؛ يتعلّق بتطوّر النظريّات والمدار س اللسانيّة فتولد النظريّات الجديدة انطلاقا من المآزق التي تصل إليها النظريّات القديمة، فكلّ نظريّة تمثّل نقدا للسابق وإضافة جديدة لا تقطع نهائيّا مع ما قبلها من تصوّرات. أمّا المستوى الثاني فخارجيّ يتعلّق بوجود صلة بين اللسانيّات وسائر العلوم المجاورة وقوامها علاقة تأثّر وتأثير بينهما. ذلك أنّ اللسانيّات تتأثّر بما يحدث في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها وهي في نفس الوقت تؤثّر في سائر العلوم الإنسانيّة من نقد وإنشائيّة وأنتروبولوجيا. ضمن هذين المستويين يمكن أن ندرس آراء دي سوسير المؤسّسة للبنيويّة. 1- الخلفيّات الفكريّة والعلميّة لظهور اللسانيّات البنيويّة : بالعودة إلى كتاب سوسير المؤسّس "دروس في الألسنيّة العامّة" يمكن أن نلاحظ وجود مؤثّرات مختلفة تتعلّق من جهة أولى بما كان سائدا في الدراسات اللسانيّة قبله. وبما كان يسود في عصره من مناهج ومفاهيم في سائر العلوم. أ- نقد المنهج التاريخي المقارن : كانت اللسانيّات في

الدرس الثاني : خصائص النظريّة اللسانيّة ومدى انطباقها على النحو التوليديّ

لتحميل الدرس في صيغة ب د ف اضغط هنا  مقدمة: في كلّ علم هناك مقابلة شائعة بين النظريّ والتطبيقيّ. وفي علم اللسانيّات نجد كلاما نظريّا عن الدال والمدلول والبنية والقيمة والشكل، والصوتم... ونجد في المقابل تطبيقات على العربيّة والانجليزيّة وسائر الألسنة. هذا التمييز لا يعني أنّ كلّ من يخوض في الخطاب النظريّ هو منظّر وصاحب نظريّة فهناك كثير من اللسانيّين يكتبون بحوثا نظريّة في اللسانيّات وينشرونها في شكل مقالات وكتب. ولكنّ عددا قليلا منهم يمكن اعتبارهم من المنظّرين. ما هو السبب في ذلك؟ ليس كلّ كلام نظريّ   يمثّل نظريّة فللنظريّة شروط وخصائص ينبغي أن تتوفّر حتّى تندرج فيها ىراء لسانيّ ما. أمّا اكثر البحوث النظريّة فقد تكون تعقيبا على نظريّة أو اشتغالا ضمنها أو نقدا لها أو تدقيقا لمفهوم. نطرح في هذا الدرس أبرز خصائص النظريّة اللسانيّة من الناحية الإيبستيمولوجيّة. وبأيّ معنى تحقّق نظريّة النحو التوليديّ هذه الخصائص. 1-   مفهوم النظرية اللسانيّة وخصائصها: إنّ مجرّد الخوض في كلام نظريّ لا يعني أنّ صاحبه بصدد التنظير. إذا كان المقصود بالتنظير هو إنشاء نظريّة فليس أمرا متاحا لجميع اللسا
الدرس الأوّل:  مدخل تاريخيّ إلى علم اللسانيّات اضغط هنا لتحميل الدرس أهداف الدرس 1- تعريف اللسانيّات: موضوعها أهمّ مفاهيمها. 2- التعرّف على أهمّ أطوار اللسانيّات ومناهجها ومدارسها وأعلامها. 3- التمييز بين أهمّ فروع اللسانيّات: * اللسانيات العامّة /علم الأصوات/ علم الدلالة/ التداوليّة. 4- التعرّف على علاقة التأثّر والتاثير بين اللسانيّات ومختلف العلوم المجاورة.                                 كلّ علم يمكن تعريفه من خلال موضوع دراسته ومنهجه ونظريّاته وأطواره وفروعه وأعلامه. واللسانيّات علم موضوعه اللغة ومناهجه ونظريّاته وأطواره متغيّرة من التاريخيّة إلى البنيويّة إلى التوليديّة إلى العرفانيّة وفروعه كثيرة منها الصوتميّة والدلالة والتداوليّة وأعلامه يتفاوتون في التأثير والأهميّة. 1- تعريف اللسانيّات: الموضوع المفاهيم المنهج الأعلام أ- موضوع اللسانيّات:  تعرّف اللسانيّات linguistique/ linguistics بأنّها الدراسة العلميّة لسائر اللّغات الطبيعيّة. وهي علم من العلوم الإنسانيّة بما أنّ اللغة خاصّية بشريّة. وقد ظهر هذا المصطلح ( linguistique