التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هناك أحكام مسبقة تتعلّق بنشأة النحو العربيّ وظروف تأسيسه. ومن أشهر تلك الأحكام اعتبار النحو العربيّ نشأ مكتملا على يد سيبويه وكأنّ ظهور التفكير النحويّ كلّه صنيعة عبقريّة رجل واحد. ومن بين تلك الأحكام أيضا اعتبار النحو متأثّرا بالمنطق اليونانيّ وبالنحو اليونانيّ ونفي كلّ أصالة للتفكير النحويّ العربيّ.
 وخلافا لهذه الأحكام وما شابهها يستطيع دارس تاريخ النحو أن يلاحظ بيسر أنّ مسار بناء النحو لم يكن وليد عقل واحد بل ثمرة مسار متعرّج من التفكير ساهم فيه النحاة على اختلاف عصورهم، كما أنّ وجود المفاهيم المنطقيّة في النحو مثّل عامل إغناء وإثراء في التفكير النحويّ فكانت معالم تميّز النظريّة النحويّة ببناء نظريّ مخصوص لا تمنع من الانفتاح على المفاهيم والمصطلحات من العلوم الأخرى كالمنطق وأصول الفقه وعلم الكلام. فما هيّ أهمّ الأطوار وأهمّ المؤثّرات التي حفّت بنشأة التفكير النحويّ العربيّ.
I-     مرحلة النشأة والتخلّق:
1-   د لالة الاختلاف في أخبار النشأة:
إنّ  البحث عن السبب القادح لظهور علم النحو يصطدم بوجود أخبار كثيرة ومختلفة يصل اختلافها إلى حدّ التناقض. وحين نعود إلى كتب التراجم والطبقات نعثر على تنوّع كبير في الحوادث التي تؤرّخ لبداية التأليف في النحو. وهذا ما دفع أصحاب المعاجم والطبقات إلى الاختلاف اختلافا بيّنا في تحديد واضع النحو، وقد نقل لنا السيرافيّ في كتاب أخبار النحويين البصريين هذا الاختلاف قائلا:
" اختلف الناس في أول من رسم النحو فقال قائلون أبو الأسود الدؤلي وقال آخرون نصر بن عاصم الدؤلي ويقال الليثي وقال آخرون عبد الرحمن بن هرمز وأكثر الناس على أبي الأسود الدؤلي".
وقد نقل لنا أبو الطيب اللغوي في مقدّمة كتابه مراتب النحويين ما انتشر من ظاهرة انتحال الأخبار والمفاضلة بين علماء العربيّة وما يعكسه ذلك من تعصّب وخلفيّات مذهبيّة إذ يقول في أسباب التأليف متوجّها إلى قارئه:
 "وإنّك أعزّك الله شكوت إليّ دفعة بعد أخرى وثانية بعد أولى شدّة تفاوت ما يصل إلى سمعك وقلبك من كلام أهل العصبيّة في المفاضلة بين أهل العربيّة وادّعاء كلّ قوم تقدّم من ينتمون إليه ويعتمدون في تأدّبهم عليه وهم لا يدرون عمّن روى ولا من روى عنه ومن أين أخذ علمه وغلب هذا إلى الجهّال وفشا في الرذّال".
إنّ هذا الاختلاف يمثّل أوّل العوائق التي تحول دون الجزم بوجود تاريخ واضح لنشأة التفكير النحويّ. ولعلّ هذا الاختلاف يعكس في بعض وجوهه تعصّبا مذهبيّا قد يعود إلى التأثّر بالخلاف السنّي الشيعيّ فمنهم من عاد بالسبب القادح إلى عصر عليّ بن أبي طالب ومنهم من عاد به إلى عصر عمر بن الخطّاب ومنهم من حصره في أبي الأسود الدؤليّ وذهب بعضهم إلى نسبته إلى نصر بن عاصم أو عبد الرحمان بن هرمز.
وثاني هذه العوائق يرتبط بذلك التردّد بين افتراضات كثيرة وهو يعكس غياب الأدلّة القطعيّة التي تؤرّخ لبدايات النحويّة تأريخا دقيقا ولذلك كثيرا ما ترتبط أحكام الباحثين وآراؤهم في تفسير النشأة الأولى للنحو بغلبة الميول المذهبيّ والفرضيّات النظريّة والتخمين أكثر من ارتباطها بالأحكام العلميّة القاطعة. ولذلك يرى طلال علامة أنّ كثيرا من تلك الاجتهادات في تفسير هذه النشأة تصل حدّ الغرابة والتخمين دون الاستناد إلى تحليل موضوعيّ. ويمكن أن نحصي أشهر هذه الأخبار في الجدول التالي:
اللحن
الحادثة
السبب

"وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ"
 (الخطأ: قراءة لفظ "ورسولِه" بالجرّ لا بالرفع)
طلب زياد بن أبيه من أبي الأسود وضع النحو بسبب خطأ إعرابيّ
أمر من والي البصرة الأمويّ  زياد بن أبيه
أعرابيّ يخطئ في إعراب الآية 3 من سورة براءة فيأمر عمر أبا الأسود بوضع النحو

أمر من عمر
رجل يشكو إلى زياد:"تُوفِّي أبانا وترك بنوناً"، فيأمر أبا الأسود:"ضع للناس ما كنت نهيتك عنه" (الصواب توفي أبونا وترك بنينا)
الدؤليّ يريد وضع النحو وزياد ينهاه ثم يوافق بعد خطأ رجل يشكو موت أبيه

أمر من زياد
فقال: "إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء -يعني الأعاجم- فأردت أن أضع لهم شيئاً يرجعون إليه، ويعتمدون عليه؛ ثم ألقى إليّ الرقعة، وفيها مكتوب: "الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما جاء لمعنى"، وقال لي: "انحُ هذا النحو".


رواية الدؤليّ أنّ عليّا بن أبي طالب طلب منه وضع النحو وأرشده إلى بداياته


أمر من عليّ
 قالت له ابنته: ما أحسنُ السماءِ! فقال لها: نجومُها، فقالت: إني لم أرد هذا، وإنّما تعجبت من حسنها؛ فقال لها: إذن فقولي: ما أحسنَ السماءَ!
خطأ في كلام ابنة أبي الأسود فقرّر وضع النحو
خطأ ابنة أبي الأسود

وقد أدّى هذا الترجيح إلى بروز فرضيّات كثيرة تختلف في من أراد إنشاء علم النحو وأمر بالشروع فيه:
1ـ إرادة ذاتيّة من أبي الأسود. 2ـ  أراد عليّ إنشاء النحو فتوجّه بالأمر إلى الدؤليّ. 3- أراد عمر إنشاء النحو فتوجّه بالأمر إلى الدؤليّ. 4 ـ أراد أمير البصرة زياد بن أبيه إنشاء  النحو فتوجّه بالأمر إلى أبي الأسود.
إنّ غياب الدليل القطعيّ على صحّة أحد هذه الأخبار وقد يكون مردّه طبيعة المرحلة الثقافيّة والتي كان فيها العلم شفويّا منتشرا في الصّدور وتأخّر مرحلة التدوين ومن الطبيعيّ أن تضيع كثير من المعطيات بسبب انشغال الذاكرة الجماعيّة بحفظ القرآن وما اتصّل به من علوم شرعيّة، وهذا ما يفسّر ذلك الإعراض والرفض لتدوين العلم في مختلف الأخبار سواء كان على لسان الدؤليّ أو عليّ أو ابن زياد.
إنّ هذه المعطيات غير الثابتة تمنع الباحث من الاطمئنان إلى قول فصل في تحديد تاريخ البداية الفعليّة للتفكير النحويّ. لكنّ ذلك لا يمنع من ملاحظة جملة من الثوابت:
ـ شبه إجماع على اعتبار أبي الأسود الدؤليّ هو أوّل من تكلّم في النحو، وسواء أوضع النحو كلّه أو بعض أبوابه فإنّه يمكن الاطمئنان إلى أنّ لدينا خيطا يمثّل البداية الفعليّة للتفكير النحويّ.
ـ اعتبار اللحن في تلاوة القرآن أو الكلام العربيّ دافعا أساسيّا لوضع علم تقوّم به الألسنة ويحفظ به الإعراب من الخطأ.
2-   أسباب نشأة النحو والسياق العام لظهوره: (أسباب ثقافيّة ودينيّة)
من المؤكّد أن الحاجة إلى أيّ علم لا يمكن اختصارها في مجرّد سبب قادح، بل هي تتصل بسياق عامّ تأكّدت فيه الحاجة إلى علم النحو وصار إظهار العلم والاشتغال به حاجة معرفيّة مهما كان العالم الذي ستظهر على يديه اللبنات الأولى لهذا العلم. ومن المؤكّد أنّه قد كان لدى الأخباريّين بواعث دينيّة في نسبة الأمر إلى عليّ أو عمر تتصل بالتعصّب المذهبيّ وقد تكون لم بواعث غير دينيّة في تفضيل عالم على آخر أو نقل الأخبار دون تمحيص ونقد، لكنّ الأمر الثابت أنّ هناك معطيات تتردّد بينهم تجعلنا نطمئنّ إلى أنّ هناك أسبابا موضوعيّة عجّلت بظهور النحو وأهمّها:
أـ تقارب اللهجات العربيّة وانتشار اللحن:
لقد مكّن ازدهار فنّ الشعر بين العرب في العصر الجاهليّ من ظهور لغة فصحى بين القبائل، وقد ارتبط ذلك بفرصة التقاء العرب في الحجّ في مكّة ولذلك كانت هناك لغة فصحى وسيطة بين القبائل العربيّة هي لغة قريش، ومن المؤكّد أنّ هذه اللغة الفصحى ستزداد أهمّيتها بنزول القرآن واعتماد أشهر القراءات على لغة قريش. وسيكون الخروج عليها سببا قادحا لإظهار بعض قواعد النحو لتقويم ما يراه الفصحاء فسادا في اللغة.
أمّا الأخطاء في الإعراب فلم تكن وليدة عصر أبي الأسود بل هي قديمة قدم الظاهرة اللغويّة نفسها فقد ذكر بعض نقاد الشعر أن الشعراء قد يخطئون في الإعراب في بعض الأبيات كما أنّ السنّة النبويّة تنقل لنا دعوة الرسول للصحابة إلى تقويم إعراب بعض من أخطأ في قراءة القرآن في حضرته إذ يقول لهم (أرشدوا أخاكم فقد ضلّ)[1]، كما أنّ أبا بكر الخليفة الراشد الأوّل يجعل نسيان آية من القرآن أفضل من تحريف إعرابه إذ يقول "لأن أقرأ فأسقط أحبّ إليّ من أن أقرأ فألحن". كلّ ذلك يدلّ على أن اللحن كان موجودا قبل أبي الأسود ولكنّه لم يصل إلى درجة كبيرة من الانتشار.
لهذا السبب ينبغي أن لا نربط تاريخ ظهور علم النحو بتاريخ ظهور اللحن، فالخطأ في الإعراب أقدم من التفكير فيه، وأسبق في الزمان من وضع القواعد له، بل إنّ ظهور الخطأ في حدّ ذاته لا يمثّل خروجا عن نواميس الحياة الاجتماعيّة فهو أمر طبيعيّ في كلّ جماعة لغويّة لا بدّ أن تجد فيها من يخطئ ويسيء استخدام قواعدها لكن كثرة اللحن وانتشاره وتعدّد السياقات التي يحدث فيها تجعله ينتقل من الظاهرة الطبيعيّة إلى الظاهرة المرضيّة التي تسترعي الانتباه وتدعو لمعالجة اللحن عبر وضع علم النحو. وقد اقترح طلال علامة في هذا السياق استبدال عبارة "ظهور اللحن" بـ "انتشار اللحن" لأنّ ظهوره لم يكن مفاجئا بل زاد على ما يمكن تحمّله. ولذلك نعدّل الحكم الشائع فنقول إنّ النحو لم يظهر بسبب ظهور اللحن بل بسبب انتشاره وكثرته بين الأعاجم.
ب ـ الخوف على النصّ القرآني من التحريف وظهور تنقيط المصحف:
تشير الأخبار إلى أنّ أوّل ما فسد من كلام العرب هو الإعراب أي طريقة نطق الحركات في آخر الكلمة وقد ذكر أبو الطيب اللغويّ: "أنّ أوّل ما اختلّ من كلام العرب فاحوجّ إلى التعلّم الإعرابُ" [مراتب النحويين،  ص14] ولذلك كان أوّل عمل نحويّ قام به أبو الأسود الدؤليّ هو وضع رموز لحركات الرفع والنصب والفتح والتنوين في المصحف في شكل نقط يرسمها بلون مغاير لخطّ المصحف. إنّ تنقيط المصحف حدث رمزيّ يدلّ على أنّ علما ضروريّا ينبغي تعلّمه هو علم الإعراب ولذلك يمثّل التنقيط من القواعد الأولى لعلم النحو.
ونلاحظ أنّ أغلب الأخبار المتّصلة باللحن يكون الخطأ الإعرابيّ فيها موضوعه تلاوة آية قرآنيّة، ولعلّ ارتباط الخطأ بالنصّ القرآنيّ يمثّل أهميّة بالغة وخطرا ليس بعده خطر في عقيدة المسلمين بالنظر إلى درجة التقديس والمكانة العالية التي يحتلّلها القرآن في صفوف المسلمين حتّى أنّ أبا بكر يفضّل نسيان آية على أن يلحن فيها، ورغم أنّ الخطأ كان في الكلام اليوميّ وفي الشعر إلاّ أنّه لم يسبّب ظهور النحو، ويدلّ ذلك على أنّ اهتمام العلماء بالقرآن وتقديسه ولّد خوفا عليه من الخطأ فكان سعيهم لوضع علم النحو تحصينا لتلاوة القرآن من الخطأ في النطق واللحن في الإعراب.
ج ـ المحافظة على الفصاحة العربيّة:
من المعلوم أنّ علاقة العربيّ بلغته لم تكن علاقة عاديّة فقد بلغ في افتتانه بها حدّ الفخر وكان العربي يمارس لغته اعتمادا على السليقة دون حاجة لوضع قواعد وبرزت في ذلك قيم ثقافيّة كالفصاحة والقدرة على الخطابة وارتبطت مدوّنة القيم العربيّة بالشعر ديوان العرب فيه تُسجّل ويُتغنّى بها. وقد ساعد الشعر والحجّ إلى مكّة على توحيد اللهجات في لغة قريش فكانت هي اللغة الفصحى المتوسّطة بين اللهجات جميعا القادرة على الوصول إلى كلّ القبائل. فليس من الغريب حينئذ أن يدفع اعتزاز العرب بلغتهم كما يقول شوقي ضيف إلى وضع علم النحو حماية للغتهم ولقيمهم الثقافيّة خاصّة أنّ العقل العربيّ قد بلغ من الرقيّ والقدرة على الاستنباط ونموّ الطاقة الذهنيّة ـ حسب ضيف ـ ما يؤهّله لوضع علم جديد هو علم النحو.
كلّ هذه الأسباب مهما اختلفت تفاصيلها وتنوّعت الأخبار المتعلّقة بها أو تناقضت يمكن أن نعيدها إلى سببين رئيسيّين لا تخرج عنهما بقيّة الأسباب: أمّا السبب الأوّل فدينيّ يتعلّق بضرورة حماية لغة القرآن وتلاوته من أخطاء الإعراب خاصّة أنّه يمثّل النصّ المركزيّ الذي قام عليه الإسلام. وأمّا السبب الثانيّ فثقافيّ ويتعلّق بالرغبة في حماية اللغة العربيّة من اللحن مع امتزاج العرب بمختلف الأعراق والقوميّات والحاجة إلى انتقال الثقافة من طورها الشفويّ إلى طور التدوين وما يتطلّبه ذلك من حركة تأسيس العلوم وضبطها. فكان النحو من أوكد تلك العلوم لأنّه يحفظ اللغة التي بها تتقوّم وتصاغ سائر العلوم.
3 ـ كيف وصلت ثمار هذه المرحلة إلى الخليل وسيبويه؟
تدلّ الأخبار على أنّ علم أبي الأسود (69هـ) ورثه مجموعة من العلماء أشهرهم يحيى بن عمر (129هـ) وعنبسة الفيل وميمون الأقرن، ومن الواضح أنّ هؤلاء لم يخالفوا نهج الأوّلين في الاقتصار على تدارس العلم شفويّا دون تأكّد الحاجة إلى التدوين، وإن كانت لهم تقييدات فإنّها لم تبلغ من الإتقان والكمال ما يؤهّلها لتأسيس علم النحو في صورته المكتملة.  ولا غرابة في ذلك فالثقافة العربيّة كانت إلى هذا العصر (القرنين الأوّل والثاني) لا تزال ترتكز على الطابع الشفويّ ولم تزدهر فيها حركة التدوين والتأليف بعد. وقد أشار طلال علامة إلى أنّ النحو مرّ في مجالس العلماء بمرحلتين: أمّا في الأولى فكان النحو عمليّا وهو عبارة عن معرفة شفويّة يحتاجون إليها في تفسير بعض المسائل وتأويل الآيات وامّا الثانية فتتعلّق بالنحو النظريّ وهو عبارة عن تقييدات وبداية لظهور قواعد على شاكلة ما أملاه عليّ على أبي الأسود.
وقد برز من بينهم خاصّة عنبسة وميمون وينقل لنا أبو الطيب اللغويّ أنّ أشهر تلاميذ ميمون هو عبد الله بن إسحاق (117هـ) الذي ذاع صيته في البصرة ففرّع النحو وقاس عليه مسائل جديدة حتّى كتب كتابا في الهمز، وعنه أخذ تلميذه أبو عمرو بن العلاء (154هـ)الذي عُرف باتّساع معارفه بلغات العرب. كما أخذ عنه تلميذه عيسى بن عمر (149هـ) والذي أخذ أيضا عن أبي عمرو بن العلاء الذي بلغ ولعه بالنحو وتميّزه فيه حدّ تأليف كتابين في النحو هما "جامع" و"إكمال" لم يصلا إلينا إلا أنّ مدح الخليل لهما يدلّ على مقدار ما فيهما من عمق نظر وتطوّر في التفكير النحويّ. فقد ورد في مراتب النحويين على لسان الخليل في مدح أستاذه:
بَطُل النـــــحو الذي جمّعتُمُ        غير ما ألّف عيسى بن عمر
ذاك "إكـمال" وهذا "جامع"       وهمــــا للنّاس شمس وقمـر
ويشير هذان البيتان إلى وجود محاولات أولى عند النحاة لـ "تجميع" النحو ويبدو أنّ مجهود عيسى بن عمر كان أبرز تلك المحاولات، ومكمن التميّز من خلال عنوان الكتابين هو البحث عن جهد تأليفي يجعل النحو مدوّنا في صورة "كاملة" و"جامعة". لكنّنا لا نملك إلا هاتين الإشارتين دليلا على ما بذله بن عمر. ويبدو أنّ كلّ جهود التدوين والتجميع منذ عصر الدؤليّ إلى نهاية القرن الثانيّ للهجرة  لم ترتق إلى مرحلة النضج التي مثّلها بامتياز كلّ من الخليل وسيبويه ومن سار في فلك الكتاب من نحاة بصريّين وكوفيّين في القرن الثاني والثالث.
II-         مرحلة تأسيس النحو :
كثير من الدارسين يدمجون هذا الطور التأسيسي مع الطور السابق الخاصّ بنشأة النحو معتبرين تاريخ النحو مقسّم على اطوار ثلاثة (نشأة وتفكير واستعادة) ولكننا نعتمد تقسيما رباعيّا ونفرد منهجيّا مرحلة سيبويه بطورخاصّ لأنّنا نعتبر سيبويه لا يمثل مرحلة بداية ونشأة بل مرحلة تأسيس وذلك لسببين: الأوّل أنّ النحو كان قد نشأ قبله بعد منتصف القرن، الأوّل للهجرة (نحو نظريّ) مع وجود فرضيّة أن يكون موجودا قبل ذلك في شكل خواطر وأفكار تتناقل شفويّا (نحو عمليّ) ولذلك لا يمكن اعتبار مرحلة سيبويه بداية بل هي تتويج للنحو ليصل إلى مرحلة اكتمال نظريّ ومنهجيّ فالنحو لم يولد مكتملا كما يظنّ البعض وإن كان كتاب سيبويه أول ما وصلنا. أمّا السبب الثاني فهو اعتبار الكتاب ممثّلا لمرحلة باسرها وهو ليس الكتاب الوحيد الممثّل لتأسيس النحو فقد كانت مساهمات نحاة آخرين جليّة خاصّة مساهمة الخليل.


1-   دور الخليل في وضع أسس النحو:
يمثل الخليل بداية مرحلة التأسيس واكتمال علم النحو صناعة واضحة الأبواب. وتبدو مساهمة الخليل حاسمة وهي وإن لم تأخذ من شهرة سيبويه فإنّها كانت عاملا مهمّا إذ لولا الخليل لما استطاع سيبويه أن يؤلّف كتابه. والخليل بن أحمد الفراهيديّ (ت 170هـ) هو التلميذ المتميّز لعيسى بن عمر وأحد أبرز العقول العربيّة التي ساهمت بعبقريّتها في وضع النحو وعلوم أخرى مثل العروض والمعجم. وتبرز أهمّية جهد الخليل في تأسيسه لما بات يعرف بنحو البصرة فقد توسّع في استخدام القياس وكرّس نظريّة العامل في التفكير النحويّ. والخليل هو نهاية الحلقة في وصول العلم إلى سيبويه (180هـ) فهو أبرز أستاذته وصاحب الأثر الواضح في الكتاب فقد نقل عنه سيبويه أكثر من خمسمائة مرّة. ويمكن أن ندرك أهمّية جهد الخليل في النحو من خلال ما انتهى إلينا من أعماله فقد كان صاحب أوّل معجم عربيّ وضمّنه مقدّمة تؤسّس لعلم الاشتقاق ونظريّة التقليبات في الجذور كما أنّه كان مخترع علم العروض بما فيه من دقائق الأوزان الشعريّة، فليس غريبا حينئذ أن يؤسسّ هذا العقل الفذّ الدعائم الأساسيّة للنحو. ثمّ يكمل سيبويه جهد الخليل ويستوعبه فيبوّب النحو ويصوغه ليكون ميلاد أوّل كتاب نحويّ يصل إلينا فيه الأسس الكبرى لعلم النحو وأبوابه الأساسيّة. فما هي حدود تأثّير الكتاب في تأسيس النحو؟
2-   منزلة الكتاب وبداية ظهور الخلاف البصري والكوفيّ:
يبدو أنّ عصر سيبويه شهد البداية الفعليّة لنضج التفكير النحويّ وتأسيس دعائمه النهائيّة. وتظهر ملامح ذلك على أكثر من صعيد. فقد جمع سيبويه أفكار شيوخه وزاد عليها أفكاره في أتمّ صورة نالت الإعجاب والعناية حتّى ادّعى أبو جعفر الرؤاسيّ أنّ ما في الكتاب من علمه لشدّة افتتانه بما فيه من نضج. وقد اضطلع الأخفش ثمّ تلاميذ الأخفش بنشر كتابه بين النحاة خاصّة أنّه توفّي شابّا ولم ينل ما كان يأمله من حظوة. وفي عصره بدأ يظهر التنافس بين النحوين البصريّ والكوفيّ.
يبرز الملمح الأوّل من خلال شدّة تأثير الخليل صاحب العقل الفذّ في كتاب سيبويه فقد تتلمذ سيبويه على يد الخليل وأغرق في الأخذ عنه وكان الخليل يقدّمه حتّى خصّه ذات مرّة دون سواه بالقول: "مرحبا بزائر لا يُمَلُّ". كما أنّه جلس إلى كبار علماء عصره من النحاة مثل يونس بن حبيب والأخفش الأكبر وأبي عمرو بن العلاء، فتنوّعت مصادر علمه. واستطاع أن يضع كتابه الذي عُدّ الظهور الأوّل للنحو في صورة مكتملة. وتشير الأخبار إلى أنّ سيبويه ظنّ حمّاد بن سلمة مخطئا في قوله "ليس أبا الدرداء" فظنّها "أبو" فكان ذلك سببا في طلبه جمع علم النحو. "لا جرم سأطلب علما لا تلحّنني فيه". وليس من المنطقيّ أن يكون سيبويه هو النحويّ الوحيد الذي ابتدع علم النحو بناء على واقعة كهذه ولذلك يمكن أن نعتبر عصره متهيّئا بطبعه لاكتمال علم النحو لأنّه ضمّ حصيلة ما آل إليه النحو من نضج وتهيّؤ للتأسيس. ويدعم ذلك ما نقله سيبويه في الكتاب من إحالات كثيرة وملاحظات دقيقة عن شيوخه وخاصّة الخليل.
ويبدو أنّ شهرة كتاب سيبويه قد بلغت مبلغا كبيرا في حياته وإن لم ينل حظوة كبيرة بين النحاة فقد كان طرفا في مناظرة الكسائيّ أحد مؤسّسي مدرسة الكوفة  في حضرة الأمين بن هارون الرشيد المعروفة بالمسألة الزنبوريّة. وتشير الأخبار إلى أنّ سيبويه خرج فيها مهزوما بسبب التعصّب للكسائيّ فانقطع عن الناس في بلاد فارس حيث توفّي. والغريب أنّ الكسائيّ نفسه أخذ عن كتاب سيبويه ومن بعده أخذ الفرّاء حتّى وُجد الكتاب تحت وسادته بعد موته. ويظهر لنا من خلال هذه الأخبار أنّ الكوفيين وخاصّة منهم الكسائيّ والفرّاء قد أخذوا النحو عن البصريين من شيوخ سيبويه ونافسوه في علمه حتّى ادّعى الرؤاسي أستاذ الكسائيّ أنّ علم سيبويه يعود إليه.
وقد امتدّت مرحلة التأسيس إلى ما بعد وفاة سيبويه من خلال نقل كتاب سيبويه عن طريق الأخفش وتلاميذه فقد ساهم المازنيّ والجرميّ من تلاميذ الأخفش في نشر كتابه بين النحاة بما في ذلك نحاة الكوفة حتّى وُجد الكتاب في وسادة الفرّاء بعد وفاته. ممّا يدلّ على المنزلة الكبيرة التي أحدثها كتاب سيبويه وليس أدلّ على ذلك من كثرة شروح كتاب سيبويه والتي لم يصل إلينا منها إلا القليل، حتّى قال فيه الجاحظ: "لم يكتب الناس في النحو كتابا مثله وجميع كتب الناس عليه عيال" . وقال فيه المبرّد  ‏"لم يُعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه؛ وذلك أن الكتب المصنَّفة في العلوم مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج مَنْ فَهِمَه إلى غيره‏".
لقد شهد عصر سيبويه حينئذ بداية تشكّل المدرسة الكوفية مما يدل على نضج النحو في البصرة وإشعاع النحو ليمتدّ إلى الكوفة. وتشير الأخبار إلى أنّ الأخفش الأوسط الذي نقل عن سيبويه كتابه مباشرة كان يناقش سيبويه كثيرا ويستفسر منه وأنّه على يديه تتلمذ الكسائيّ والفرّاء فطوّروا تلك النقاشات وبهم صار للكوفة مدرسة في النحو. ولعلّ أبرز ما يدلّ على بداية توسّع الخلاف البصري الكوفيّ في هذه المرحلة بداية تشكّل جهاز اصطلاحيّ كوفيّ يختلف عن مصطلحات البصريّين. وعموما يمكن حصر أهمّ المصطلحات التي اختلفوا فيها في الجدول التالي:
المصطلح البصري وما يقابله من مصطلحات عند نحاة الكوفة (الكسائيّ والفراء وثعلب)
الصفة
النعت
الردّ / التبيين/ الترجمة
البدل
واو الصرف
واو المعيّة
المجهول
ضمير الشأن
النسق
العطف
المستقبل
المضارع
المصدر
المفعول له / لأجله
ضمير العماد
ضمير الفصل
التقريب
اسم الإشارة
الفعل الدائم
اسم الفاعل
اسم الكناية  واسم المكنَّى
الضمير والمضمر
حروف الخفض
حروف الجرّ
حروف الجَحْد
حروف النفي
المحلّ / الصفة
الظرف
ما لا يجري/ عدم الإجراء
الممنوع من الصرف
التفسير
التمييز
حروف الصلة أو الحشو
الحروف الزائدة
الواقع
المتعدّي

ومهما يكن من أمر هذا الخلاف وجذوره فالثابت في الدراسات التاريخيّة النحويّة أنّ الكوفة نشأت من رحم المدرسة البصريّة وأنّ العبّاسيّين كانوا يحرصون على استقدام أشهر النحاة من المدينتين ويقيمون في بغداد المناظرات بينهم. ومن أشهر تلك المناظرات المسألة الزنبوريّة التي دارت بين سيبويه والكسائيّ وكذلك المناظرة بين الكسائيّ واليزيديّ والمناظرة الشهيرة بين الجرميّ والفرّاء حول عامل الرفع في المبتدأ. وكذلك ما روته كتب الطبقات من ولع المبرّد بمناظرة ثعلب في مناسبات متعدّدة وتعرّض تلاميذ ثعلب له بالنقاش. لكنّ هذا الاختلاف في المصطلحات كان محدودا فقد كان مجال الاشتراك أوسع وأظهر، فالنحو الكوفيّ مستمدّ من النحو البصريّ والخلاف بينهما كان في مسائل تفصيليّة لم تخرج عن الأصول العامّة للنظريّة النحويّة العربيّة.
III-        مرحلة التفكير في النحو:
1-  توسّع الخلاف البصري الكوفيّ والمناظرات:
شهدت الفترة التي لحقت عصر سيبويه توسّع الخلاف بين نحاة البصرة ونحاة الكوفة. فبُعيد وفاة سيبويه استكمل الكسائيّ والفرّاء معالم المدرسة الكوفيّة ونقلوا عن الأخفش الأوسط خلاصة نحو البصريّين وزبدة ما انتهى إليه الخليل وسيبويه انطلقا في تثبيت دعائم مدرستهم وتخصيص مصطلحاتها النحويّة، فكانوا بذلك جزءا من مرحلة تأسيس النحو لأنّهم ساهموا في تثبيت مبادئ التفكير النحويّ وإن خالفوا البصريّيين في منهجهم. لكنّ الفترة اللاحقة لعصر سيبويه شهدت ترسيخ الخلاف البصري الكوفيّ وتوسّع دائرة النقاش والمناظرة بين النحاة. فتوسّع التفكير في مبادئ النحو وتعليل أحكامه، وبلغ التنافس بين المدرستين مبلغا كبيرا حتّى صنّف النحاة اللاحقين كتبا في مسائل الخلاف. ولعلّ كتاب أبي البركات بن الأنباريّ (577هـ) "الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريّين والكوفيّين" هو أشهر ما وصل إلينا في تناول ما دار بين نحاة المدينتين من جدل نحويّ فقد توسّع في مسائل الخلاف وفصّل فيها القول. ويمكن الإشارة كذلك إلى كتاب آخر تناول نفس الموضوع وإن كان أقلّ شهرة لأبي البقاء العكبريّ (616هـ) "مسائل خلافيّة في النحو".
ويرى محمّد طنطاوي في كتابه  نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة ، أنّ الخلاف بين المدرستين كان مشدودا إلى خلفيّات سياسيّة. فالبصرة ضمّت قبائل أعرق في الفصاحة وأكثر حظوة عند الأمويين لأنّها حالفتهم في معركة الجمل إبّان الفتنة الكبرى وأمّا الكوفة فكانت المدينة التي انتقل إليها عليّ بن أبي طالب ووجد فيها حلفاءه وكانت قبائلها أقل ّعراقة في الفصاحة وأكثر حظوة عند العبّاسيّين.
لكن من الواضح أنّ نحاة البصرة قد امتدّ تأثيرهم في باقي العصور بعد سيبويه واشتهر منهم الكثير مثل المبرّد والزجّاج وابن السرّاج ويبدو أنّ بداية القرن الرابع شهدت آخر نحاة الكوفة المشهورين بعد الكسائيّ والفرّاء والأخفش الصغير وثعلب (291هـ) وهو أبو بكر بن الأنباريّ[2] (328هـ) آخر النحاة المتأثرين بمدرسة الكوفة كما يرى ذلك شوقي ضيف. ليستقيم النحو بعد ذلك بصريّا.
وعموما نلاحظ وجود اختلافات منهجيّة أساسيّة بين المدرستين أحصاها الدارسون في النقاط التالية:
1- اعتماد نحاة البصرة على القياس وقدّموه على السماع فأثبتوا كلّ ما يمكن قياسه على فصيح الكلام وتركوا الشاذّ الذي لا يخضع للقياس. في حين كان الكوفيّيون يقدّمون السماع على القياس فعتمدوا ما يسمعونه في استنباط الحكم النحويّ وإن كان شاذّا غير مطابق للقياس.
2- تشدّد البصريّين في أخذ الكلام العربيّ عن أهل الفصاحة فحصروا مصادرهم في القبائل التي سكنت البادية (تهامة ونجد والحجاز) والتي لم يعرف عنها الاختلاط بالأعاجم من فرس وهنود وأقباط. كما تجنّب البصريّون الاعتماد على الشواهد القرآنيّة والحديث. أمّا الكوفيّون فقد تسامحوا في الاعتماد على كلّ ما يسمعونه من كلام عربيّ حتّى من القبائل التي لم تكن مشهورة بفصاحتها. واستشهدوا بالقرآن والحديث لإثبات قواعدهم.
3- الاختلاف في تقدير بعض المبادئ النحويّة عند إعراب بعض الجمل والتراكيب مثل العوامل اللفظيّة والمعنويّة وما تسبّبه بعض الألفاظ من عمل إعرابيّ وتقدير العناصر المحذوفة.
4- الاختلاف جزئيّا في بعض المصطلحات النحويّة (النفي/الجحد  - التمييز/التفسير – الجرّ/الخفض.... )
وقد شهد القرن الرابع الكثير من الكتب التي تناولت الخلاف بين المدرستين وأحصى بعض الباحثين[3] أحد عشر كتابا لم يصلنا أغلبها.
ورغم شهرة هذا الخلاف ومساهمته الفعّالة في تطوير الدرس النحويّ وإضفاء حركيّة فكريّة على المسار التطوّريّ لعلم النحو، فإنّ بعض الدارسين يشكّك في وجود مدارس نحويّة بالمعنى الدقيق لمصطلح مدرسة (انظر إبراهيم السامرّائي، المدارس النحويّة، أسطورة وواقع، دار الفكر عمّان، 1987). فالكوفيّون وإن كانت لهم بعض الآراء والمصطلحات التي تميّزهم فإنّ نحوهم مستمدّ من النحو البصريّ فهم لم يخرجوا عن المبادئ العامّة للتفكير النحويّ من قياس وسماع وإعراب وإسناد وعامل... ولذلك يمكن اعتبار آراء الكوفيّين اجتهادات ضمن نفس النظريّة النحويّة دون خروج عن أصولها. وقد أشار جميل علوش إلى أنّ بعض المستشرقين شكّك في وجود مدرسة كوفيّة ذات كيان مكتمل فوجود الكوفة من صنع النحاة المتأخّرين ولذلك توجد مبالغة في تصوّر مدرستين نحويّتين خاصّة أنّ الخلاف نفخ فيه التعصّب القبليّ وتاثير الأهواء السياسيّة بسبب الفتنة الكبرى ثمّ العداء الأمويّ العبّاسيّ. ويدعم هذا الرأي الكثير من المعطيات منها أنّ بين الفرّاء والكسائيّ خلافا في الرأي ضمن نفس المدرسة الكوفيّة وأنّ كثيرا من البصرّيين وافقوا نحاة الكوفة والعكس صحيح، بل إنّ أشهر نحاة الكوفة كانوا تلاميذ لنحاة البصرة وكان كتاب سيبويه مرجعا لهما جميعا ولكل هذه الأسباب فإنّ ما يجمع المدرستين أكثر ممّا يفرّقهما فكلاهما يعتمد القياس والسماع ومبادئ النظريّة النحويّة العربيّة.

2-  ظهور علم أصول النحو
يمكن اعتبار هذه المرحلة متسمة بأمرين أساسيّن: توسّع الخلاف بين نحاة البصرة والكوفة وتأسيس علم أصول النحو. ويبدو أنّ الفترة الذهبيّة للتفكير النحويّ كانت في القرن الرابع وما تلاه فقد كانت أعمال النحاة تتّسم بالعمق والتفكير وغلبة أسلوب الحجاج والتوليد للأفكار. وساهمت هذه الحركة الفكريّة في تطوّر التفكير النحويّ وبروز أصول منهجيّة عامّة تؤطّر جهود النحاة وتوجّه مسار تفكيرهم. هذه الأصول ليست الخوض في قواعد النحو من فعل وفاعل ومبتدأ ورفع للألفاظ ونصبها أو جرّها بل هي خوض في تبرير الأحكام منهجيّا وعودة بها إلى العلّة الموجبة من قبيل سبب رفع الفاعل والمنهج المتّبع مثل القياس والسماع ومبدأ العامل والخوض في مفهوم الإسناد. وتمثّل هذه المبادئ والمناهج ما يمكن تسميته بعلم أصول النحو. ويثير ظهور هذا العلم الذي يمثّل خلاصة مناهج النحاة وتفكيرهم إشكاليّة المؤسّس خاصّ أنّ بعض النحاة المتأخّرين ينسبون إلى أنفسهم تأسيسه.
 تبدو عناصر هذا العلم ومناهجه مبثوثة في كتب النحاة منذ مرحلة النشأة، فالأخبار تذكر أنّ عبد اله بن اسحاق كان أوّل من مدّ القياس لكنّ استعمال هذه المبادئ من قبيل القياس والسماع والعامل وأقسام الكلام كان إجرائيّا وخوضا في مسائل نحويّة. فم يكن مشغل النحاة أن يضعوا كتبا للأصول العامّة بل للقواعد النحويّة ورغم كثر ة الكتب التي تحمل عنوان "الأصول" أو "العلل" إلاّ أنّها لم تكن سوى خوض في النحو لا في أصوله. لكنّنا نجد في المقابل إشارات متفرّقة في كتب النحو تدلّ على أنّ النحاة وهو يقعّدون النحو ويشرحون مسائله خاضوا في أصوله وفكّروا في تعليل مسائله مستفيدين من ثقافتهم في الفلسفة وعلم المنطق والفقه وأصول الفقه فكانت بوادر هذا العلم مبثوثة في آراء الخليل وابن السرّاج والزجّاجيّ من خلال إشاراتهم المتفرّقة إلى التعليل والقياس والسماع باعتبارها منهجا متّبعا.
 لكنّ أوضح البوادر لنشأة علم أصول النحو كانت بارزة في نهاية القرن الرابع في بعض فصول كتاب الخصائص لابن جنّي (392هـ) فقد تمكّن بفضل عقله الفذّ من الخوض في مسائل منهجيّة وأصوليّة لم يسبق إليها وقدّم آراء تدلّ على سعة علمه وعمق تفكيره في أصول النحو. ثمّ استطاع أبو البركات بن الأنباريّ (577هـ) أن يكون أوّل من يؤلّف مصنّفا واضحا في علم أصول النحو من خلال رسالته "لمع الأدلّة في أصول النحو" فنقل إليه مصطلحات أصول الفقه وحدّد بصفة نهائيّة معالمه وعرّف مسائله وأبوابه فحاز السبق في ذلك. ورغم أنّ السيوطيّ (911هـ) ادّعى تأسيس هذا العلم في القرن العاشر إلاّ انّه كان مجرّد ناقل لعلم كان قد سُبق إليه. ويهمّنا في هذا الإطار أن نوضّح أنّ مسائل هذا العلم كانت مبثوثة في كتب المتقدّمين والمتأخّرين وأنّ فضل الأنباريّ ومن بعده السيوطيّ يكمن في جمع مسائله وتدقيق مصطلحاته. فهم سبقوا إلى تأليف كتاب مختصّ في علم أصول الفقه لكنّهم لم يسبقوا إلى مادّة هذا العلم المبثوثة في آراء النحاة على اختلاف أجيالهم.
 وبما أنّ الاهتمام بالنحو كان لاحقا للاهتمام بالعلوم الشرعيّة فقد كان النحو متأثّرا بمصطلحات علم أصول الفقه وقد رأى الجابري أنّ اعتماد النحاة على علم أصول الفقه كان اعتمادا كلّيّا  فاستنسخوا العلم هيكلا ومصطلحات (تكوين العقل العربيّ، ص120) وكما أنّهم تأثّروا بعلم الكلام لكنّه ليس من السهل ـ حسب الجابري ـ تحديد كيفيّة تأثّر النحاة بالمتكلّمين لأنّ الكثير من النحاة كان متكلّما ومعظمهم كان معتزليّا (تكوين العقل العربيّ، ص119). أمّا مسائل علم أصول النحو فيمكن تقسيمها إلى أصول نظريّة مثل أقسام الكلام والإعراب والعوامل النحويّة والإسناد وأصول منهجيّة تتعلّق بالتعليل النحويّ مثل القياس والسماع والاستصحاب.
IV - مرحلة الاستعادة:
بعد القرنين الرابع والخامس من الهجرة اكتملت معالم النظريّة النحويّة العربيّة من خلال ما شهده التفكير النحويّ من توسّع في تفصيل مسائل النحو والتفكير فيها وتناول العلل والقياس والسماع ومبادئ النظريّة النحويّة من إعراب وإسناد وعامل. ومع بداية القرن السادس إلى حدود القرن العاشر دخل التفكير النحويّ في مرحلة جديدة تتميّز بالتبسيط والشروح والكتب التعليميّة، وتعبّر هذه المرحلة عن اهتمام النحاة بالأعمال التي سبقتهم واستيعابهم لخلاصة التفكير النحويّ وسعيهم لتيسير ما اشتملته مصنّفات الأوائل وصياغتها في كتب تعليميّة واضحة أو شرحها بطريقة تجمع بين الوضوح والبساطة. وينبغي أن ننتبه إلى استعادة النحو لم تكن وليدة هذا العصر فقد كانت شأن كلّ النحاة وهم يستعيدون جهود أسلافهم لكنّ غلبة الاستعادة على التفكير النحويّ واكتمال معالم النظريّة النحويّة جعل هذه السمة هي الغالبة عند المتأخّرين متأثّرين بنزعتهم التعليميّة التي تبحث عن التبسيط والاختصار والشرح والوضوح.
ولا بدّ لنا أن ننتبه إلى أنّ نزعة الاستعادة عند المتأخّرين لا تعني مطلقا النقل الحرفيّ لأفكار الأوائل وخلوّ مصنّفات المتأخّرين من كلّ نفس نقديّ أو نقاش أو إضافة نظريّة، إذ لا يمكن اعتبار النحاة في هذه المرحلة مجرّد ناقلين أو مجترّين لأقوال السابقين بل كانوا لا يتورّعون عن إبداء رأيهم في أمّهات القضايا النحويّة، المجهود الذي قاموا به لا يخلوا من إبداع وقدرة منهجيّة. ويكفي أن نشير في هذا الخصوص إلى كتاب ابن مضاء القرطبيّ الذي مثّل ثورة على منهج النحاة في التعليل ومراجعة لأصولهم النظريّة. ورغم أنّ مسألة المدارس وحركة التناظر والنقاش بين النحاة لم يعد لها نفس الزخم فقد انتهى وخلص النحو بصريّا بعد مرحلة الخلاف إلاّ أنّ بعض الدارسين ذهب مذهبا أبعد في تثمين جهود المتأخّرين من خلال الحديث عن المدرسة البغداديّة والمدرسة الأندلسيّة في النحو. وهي تسميات تعكس امتداد التفكير النحويّ جغرافيّا في أركان البلاد العربيّة الإسلاميّة في الأندلس (ابن مضاء، ابن عصفور) وفي مصر (ابن هشام وابن يعيش) ولا تعكس من جهة التظير والمنهج وجود مدارس حقيقيّة على شاكلة ما حدث بين الكوفة والبصرة من اختلاف في المنهج وتقدير بعض الأصول.
 فهذه المرحلة حينئذ تجمع بين الاستعادة والاستيعاب والنقاش لأنّها ضمّت جهدا نظريّا ونقديّا تكفّل به نحاة كبار كان لهم تأثير كبير ومنزلة عالية بين النحاة ومنهم خاصّة أبو البركات ابن الأنباريّ (577هـ) الذي استوعب جهود السابقين واستنبط أركان علم أصول النحو معتمدا على جهوده وجهود من سبقه. ومنهم كذلك ابن يعيش والأستراباذي في القرن السابع وابن هشام...
ويمكن أن نصنّف جهود استيعاب المتأخّرين لمصنّفات النحو ضمن خطّين منهجيّين: الاختصار والشرح.
أمّا الاختصار فعمل منهجيّ يعيد الكثرة إلى القلّة ويستخرج المبادئ العامّة من تفاصيل النحو وتحليلاته. ويمكن أن نميّز في هذا الخصوص نوعين من الاختصار: أمّا النوع الأوّل فيتعلّق بمختصرات النحو وقواعد العربيّة ومن أبرزها كتاب المفصّل للزمخشريّ وكتاب العوامل للجرجانيّ وكتابي الكافية والشافية لابن الحاجب وألفيّة بن مالك وكتابي مغني اللبيب وقطر النّدى وبلّ الصدّى لابن هشام الأنصاريّ. ويتطلّب هذا النحو من الاختصار قدرة على تنظيم فصول النحو وتصنيفها في شكل مبسّط يقدّم للمتعلّمين أهمّ قواعد النحو دون تعقيد أوتعمّق في القضايا والجزئيّات. أمّا النوع الثاني من المختصرات فيتعلّق بأصول النحو وقد شهد كتابين أساسيّين الأوّل لابن الأنباريّ في القرن السادس للهجرة وكان رسالة مختصرة لخّص فيها مبادئ علم أصول النحو من قياس وسماع واستصحاب والثاني كتاب الاقتراح في أصول النحو الذي ألّفه السيوطي في القرن العاشر.
أمّا الحركة الثانية في جهود الاستيعاب فتتعلّق بالشرح والتفصيل وقد كانت هذه الحركة في اتّجاهات عدّة: منها العودة إلى كتب الجيل الأوّل من النحاة بالشرح والتفصيل مثل كتاب الجرجاني المقتصد في شرح الإيضاح أو كتاب ابن عصفور الإشبيليّ في شرح جمل الزجّاجيّ. ومن العودة إلى كتب المعاصرين وجيل السابق بالشرح والتفصيل مثل كتاب شرح البن يعيش للمفصّل وشرحي الأستراباذي لكتابي ابن الحاجب الكافية والشافية. ومنها كذلك ولع النحويّ الواحد بتأليف كتاب مختصر ثمّ العودة إليه بالشرح مثل ابن هشام (قطر الندى وبلّ الصد)
احركة استيعاب النحو تمّت في اتّجاهين: تلخيصه وشرحه
شهد آخر النحاة الكبار مثل الأستراباذي وابن هشام  

يمكن اعتبار هذه المرحلة مرحلة ازدهار جديدة للنحو بسبب كثرة المؤلفات التي تختصر النحو في كتب موجزة وكذلك انتشار الكتب التي تشرح تلك المختصرات وتستوعب جهود السابقين بالشرح والنقاش وإعادة التأليف. وقد كانت أبرز مصنّفات النحو في هذه الفترة تهتمّ بالمختصرات ذات الطابع التعليميّ وبالشروح لأبرز المؤلفات مثل كتاب الكافية لابن الحاجب الذي شرحه الأستراباذي في كتاب شرح الكافية ، ونجد كذلك شرح المفصّل لابن يعيش وكتب ابن هشام التعليميّة الشهيرة مثل مغني اللبيب وشرح قطر الندى وبلّ الصدى وشروح ألفيّة ابن مالك عند ابن عقيل وابن هشام . ويمكن أن نلاحظ في هذه المرحلة استقلال كتب الصرف عن النحو بعد أن كان مفهوم النحو في المراحل السابقة يضمّ في أغلب الأحيان قضايا الإعراب والصرف (الصرف= اشتقاق+ تصريف)، مثل كتب شرح الشافية للأستراباذي والممتع في التصريف لابن عصفور الإشبيليّ.
الخلاصة:  حصيلة تاريخ النحو و أهمّ الأعلام والمصنّفات:
تمكّننا العودة إلى كتب طبقات النحاة والمصنّفات النحويّة من رسم تصوّر عامّ لأهمّ الأعلام الذين أثّروا في تاريخ التفكير النحويّ. ورغم أنّ النحاة أكثر من أن  يحصيهم درسنا وعدد كتبهم أكبر من أن يضبطه عدّ فإنّ هناك أعلاما بارزين لا يمكن لدارس النحو أن يخطئهم وتمثّل كتبهم علامات بارزة ميّزت مسيرة التفكير النحويّ. ويمكن أن نرسم جدولا لأهمّ الأعلام ومصنّفاتهم وقيمة ما أنجزوه من خلال الجدول التالي:







النحويّ
الوفاة
المؤلفات
منزلته
أبو الأسود الدؤليّ
69 هـ

أوّل من وضع قواعد نحويّة
يحيى بن عمر
129هـ


ميمون الأقرع



عبد الله بن إسحاق
117هـ

فرّع النحو وقاس عليه مسائل جديدة
أبو عمرو بن العلاء
154هـ


عيسى بن عمر
149هـ
إكمال- جامع
مدح الخليل جمعه للنحو في كتابين واعتبر النحو بعدهما باطلا
الخليل بن أحمد الفراهيديّ
170هـ

أكثر المؤثرين في سيبويه فقد استشهد به كثيرا في كتابه. وهو أوّل من أرسى نظريّة العامل النحويّ. خاض في العلل والقياس. هو رأس المدرسة البصريّة وعلمها الأبرز
سيبويه
180 هـ

ـ الكتاب
المبرّد
285هـ

  ـ المقتضب


ـ ما ينصرف وما لا ينصرف
311هـ
الزجّاج
ـ الأصول في النحو
316هـ
ابن السراج
1ـ الإيضاح في علل النحو/  2ـ الجمل في النحو
337هـ
الزجّاجي
ـ شرح كتاب سيبويه
368هـ
السيرافي
ـ الإيضاح في النحو
377هـ
أبو علي الفارسيّ
ـ علل النحو
381هـ
الورّاق
ـ معاني الحروف
384هـ
الرماني
1ـ الخصائص / 2ــ سرّ صناعة الإعراب
392هـ
ابن جنّي

1ـ العوامل المائة / 2ـ دلائل الإعجاز / 3ـ المقتصد في شرح الإيضاح
471 هـ
عبد القاهر الجرجاني
ـ المفصّل في صناعة الإعراب
538هـ
الزمخشري
1ـ أسرار العر بيّة  / 2ـ الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين  / 3ـ الإغراب في جدل الإعراب (رسالة) / 4 ـ لمع الأدلّة في أصول النحو (رسالة)
577هـ
أبو البركات ابن الأنباري
ـ الردّ على النحاة
592هـ
ابن مضاء القرطبي

1ـ اللباب في علل البناء والإعراب  / 2ـ مسائل خلافية في النحو
616هـ
أبو البقاء العكبري
ـ شرح المفصّل
643هـ
ابن يعيش
1ـ الكافية(كافية ذوي الإرب في معرفة كلام العرب)/
2 ـ الشافية
646هـ
ابن الحاجب
1ـ شرح جمل الزجّاجي (الشرح الكبير)/ 2ـ المقرّب في النحو
669هـ
ابن عصفور الإشبيلي
ـ الألفيّة (قصيدة/ متن)
672هـ
ابن مالك
ـ شرح الكافية
686هـ
الأستراباذي

ابن هشام الأنصاري
708هـ
1ـ مغني اللبيب عن كتب الأعاريب/ 2ـ شرح قطر الندى وبلّ الصدى/ 3ـ الإعراب عن قواعد الإعراب/
4ـ المسائل السفرية في النحو/ 5ـ أوضح المسالك إلى ألفيّة ابن مالك
ابن عُقيل
769هـ
شرح الألفيّة
السيوطي
911هـ
1ـ الأشباه والنظائر في النحو 2ـ الاقتراح في أصول النحو








[1] ـ رُويَ الحديث عن أبي الدرداء في كتاب المستدرك على الصحيحين للحاكم
[2]  - هو أبو بكر بن الأنباريّ الكوفيّ المتوفّي سنة 328هـ.  وهو ليس أبا البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري المتوفى سنة  577هـ صاحب كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين الكوفيين والبصريين" و"لمع الأدلّة في أصول النحو").

[3] - جميل علوش، ابن الأنباريّ وجهوده في النحو، صص243-244.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدرس الثاني : اللسانيّات البنيويّة ومفاهيمها الأساسيّة

تحميل الدرس بصيغة ب د ف من هنا  اللسانيّات علم يتنزّل ضمن مستوين متفاعلين: مستوى داخليّ ضمن علم اللسانيّات؛ يتعلّق بتطوّر النظريّات والمدار س اللسانيّة فتولد النظريّات الجديدة انطلاقا من المآزق التي تصل إليها النظريّات القديمة، فكلّ نظريّة تمثّل نقدا للسابق وإضافة جديدة لا تقطع نهائيّا مع ما قبلها من تصوّرات. أمّا المستوى الثاني فخارجيّ يتعلّق بوجود صلة بين اللسانيّات وسائر العلوم المجاورة وقوامها علاقة تأثّر وتأثير بينهما. ذلك أنّ اللسانيّات تتأثّر بما يحدث في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها وهي في نفس الوقت تؤثّر في سائر العلوم الإنسانيّة من نقد وإنشائيّة وأنتروبولوجيا. ضمن هذين المستويين يمكن أن ندرس آراء دي سوسير المؤسّسة للبنيويّة. 1- الخلفيّات الفكريّة والعلميّة لظهور اللسانيّات البنيويّة : بالعودة إلى كتاب سوسير المؤسّس "دروس في الألسنيّة العامّة" يمكن أن نلاحظ وجود مؤثّرات مختلفة تتعلّق من جهة أولى بما كان سائدا في الدراسات اللسانيّة قبله. وبما كان يسود في عصره من مناهج ومفاهيم في سائر العلوم. أ- نقد المنهج التاريخي المقارن : كانت اللسانيّات في

الدرس الثاني : خصائص النظريّة اللسانيّة ومدى انطباقها على النحو التوليديّ

لتحميل الدرس في صيغة ب د ف اضغط هنا  مقدمة: في كلّ علم هناك مقابلة شائعة بين النظريّ والتطبيقيّ. وفي علم اللسانيّات نجد كلاما نظريّا عن الدال والمدلول والبنية والقيمة والشكل، والصوتم... ونجد في المقابل تطبيقات على العربيّة والانجليزيّة وسائر الألسنة. هذا التمييز لا يعني أنّ كلّ من يخوض في الخطاب النظريّ هو منظّر وصاحب نظريّة فهناك كثير من اللسانيّين يكتبون بحوثا نظريّة في اللسانيّات وينشرونها في شكل مقالات وكتب. ولكنّ عددا قليلا منهم يمكن اعتبارهم من المنظّرين. ما هو السبب في ذلك؟ ليس كلّ كلام نظريّ   يمثّل نظريّة فللنظريّة شروط وخصائص ينبغي أن تتوفّر حتّى تندرج فيها ىراء لسانيّ ما. أمّا اكثر البحوث النظريّة فقد تكون تعقيبا على نظريّة أو اشتغالا ضمنها أو نقدا لها أو تدقيقا لمفهوم. نطرح في هذا الدرس أبرز خصائص النظريّة اللسانيّة من الناحية الإيبستيمولوجيّة. وبأيّ معنى تحقّق نظريّة النحو التوليديّ هذه الخصائص. 1-   مفهوم النظرية اللسانيّة وخصائصها: إنّ مجرّد الخوض في كلام نظريّ لا يعني أنّ صاحبه بصدد التنظير. إذا كان المقصود بالتنظير هو إنشاء نظريّة فليس أمرا متاحا لجميع اللسا
الدرس الأوّل:  مدخل تاريخيّ إلى علم اللسانيّات اضغط هنا لتحميل الدرس أهداف الدرس 1- تعريف اللسانيّات: موضوعها أهمّ مفاهيمها. 2- التعرّف على أهمّ أطوار اللسانيّات ومناهجها ومدارسها وأعلامها. 3- التمييز بين أهمّ فروع اللسانيّات: * اللسانيات العامّة /علم الأصوات/ علم الدلالة/ التداوليّة. 4- التعرّف على علاقة التأثّر والتاثير بين اللسانيّات ومختلف العلوم المجاورة.                                 كلّ علم يمكن تعريفه من خلال موضوع دراسته ومنهجه ونظريّاته وأطواره وفروعه وأعلامه. واللسانيّات علم موضوعه اللغة ومناهجه ونظريّاته وأطواره متغيّرة من التاريخيّة إلى البنيويّة إلى التوليديّة إلى العرفانيّة وفروعه كثيرة منها الصوتميّة والدلالة والتداوليّة وأعلامه يتفاوتون في التأثير والأهميّة. 1- تعريف اللسانيّات: الموضوع المفاهيم المنهج الأعلام أ- موضوع اللسانيّات:  تعرّف اللسانيّات linguistique/ linguistics بأنّها الدراسة العلميّة لسائر اللّغات الطبيعيّة. وهي علم من العلوم الإنسانيّة بما أنّ اللغة خاصّية بشريّة. وقد ظهر هذا المصطلح ( linguistique