التخطي إلى المحتوى الرئيسي
      مقدّمة: :في تحديد الأسس المنهجيّة لدراسة التفكير النحويّ العربيّ 



* يمكنكم التعليق وطرح الأسئلة والتفاعل مع محتوى الدرس في هذا الموقع في أيّ وقت تشاؤون. وتصلكم الإجابات في الحين.

* ملاحظة هذا الموقع التفاعليّ لا يعوّض الدرس الحضوري بالمعهد بل يكمّله. هدفه التفاعل مع أسئلة الطلبة وتذليل صعوبات الفهم طوال الأسبوع.
************************************************************************************************************
I- في تعريف النحو ومفاهيمه الأساسيّة:
1-    ماذا نقصد بالنظريّات النحويّة؟
يطرح درسنا فرضيّة اشتمال التفكير النحويّ العربيّ على مدارس مختلفة ونظريّات متعدّدة. وتبرز هذه القضيّة من خلال ما توحي به العلاقة النعتيّة بين مفهومي النحو والنظريّات من تعدّد في الآراء والاتّجاهات. وإذا كان تعريف النحو قد تبنّته مصنّفات النحويين وبيّنت حدوده فإنّ ربطه بالنظريّات المختلفة والآراء المتنافسة يطرح جملة من الأسئلة والقضايا منها:
هل توجد نظريّات متعدّدة في النحو العربيّ؟ أم هي اختلافات نظريّة ضمن تصوّر نظريّ واحد؟ وإلى أيّ حدّ ترتقي تلك الاختلافات بين النحاة إلى درجة المدارس النظريّة في تصوّر النحو وقضاياه (البصرة/ الكوفة/ بغداد/الأندلس)؟
لا ينصبّ الاهتمام في درسنا حينئذ على علم النحو في حدّ ذاته، إذ ليس من اهتمامنا التعريف بمسائله وأبوابه وجملة ما فيه من القواعد التركيبيّة التي نقيس بها صحّة الجمل والتراكيب النحويّة في الجملة العربيّة، بل ينصبّ اهتمامنا على أسلوب التفكير عند النحاة واختلافاتهم المنهجيّة في التنظير لمسائل هذا العلم والكيفيّة التي تطوّر بها تفكيرهم والخلفيّات المعرفيّة التي حفّت بنظرهم النحويّ.
لا بدّ لنا في البداية أن ننزّل مفهوم النحو ضمن شبكة من المصطلحات والمفاهيم التي  تميّز الدراسة اللغويّة عند العرب، لأنّ ذلك يساعدنا على تحديد الموضوع الذي فكّر فيه النحاة وإبراز الجوانب التي فكّر فيها النحاة وقدّموا فيها تصوّرات نظريّة مختلفة. 
2       - في تعريف النحو وصلته بالإعراب:
لا نكاد نجد مصنّفا من مصنّفات النحو العربيّ يسكت عن تعريف النحو معتمدا على مفهوم الإعراب، بل إنّ كثيرا من هذه التعريفات تسوّي بين علم النحو وبين صناعة الإعراب. ويقتضي ذلك منّا البحث في العلاقة بين المفهومين والحدود الفاصلة بينهما. ورغم ما بين هذه من اختلاف في الصياغة والمنهج والحدود، فإنّه يوجد بينها حدّ أدنى من الاشتراك في جملة من الأمور:
-         الدلالة اللغويّة: النحو مصطلح مشتقّ من دلالة لغويّة أصليّة "انحُ هذا النحوَ" أي اتّبع هذه الطريقة. فقد جاء في أقدم المعاجم العربيّة: " النَّحْوُ: القَصْدُ نَحْوَ الشّيء. نَحَوْتُ نحوه، أي: قَصَدْتُ [قَصْدَهُ] وبلغنا أنّ أبا الأسودِ وضع وجوهَ العربيّة، فقال [للناس] اُنحُوا نَحْوَ هذا فسُمْي نحواً." [معجم العين للخليل] وجاء في القاموس المحيط للفيروزبادي: "النَّحْوُ: الطَّريقُ، والجِهةُ" كما ورد في لسان العرب "النَّحْوُ: إِعراب الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. والنَّحْوُ: القَصدُ والطَّرِيقُ، يَكُونُ ظَرْفًا وَيَكُونُ اسْمًا، نَحاه يَنْحُوه ويَنْحاه نَحْواً وانْتَحاه، ونَحْوُ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهُ". وقد لخّص المعجم الوسيط كلّ هذه الاستخدامات لمعنى النحو بالقول: "الْقَصْد يُقَال نحوت نَحوه قصدت قَصده وَالطَّرِيق والجهة والمثل والمقدار وَالنَّوْع ". أمّا الإعراب : فقد جاء في لسان العرب: "الإِعْرابُ والتَّعْريبُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الإِبانةُ، يُقَالُ: أَعْرَبَ عَنْهُ لِسانهُ وعَرَّبَ أَي أَبانَ وأَفصَحَ. (...) وإِنما سُمِّيَ الإِعراب إِعراباً، لِتَبْيِينِهِ وإِيضاحه (...) يُقَالُ: أَعْربْ عَمَّا فِي ضَمِيرِكَ أَي أَبِنْ. وَمِنْ هَذَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَفْصَحَ بِالْكَلَامِ: أَعْرَبَ". فالإعراب يرتبط بدلالة الوضوح والبيان وزوال الغموض والإبهام. وهو من خاصّيات الكلام العربيّ حين تكون معانيه واضحة من خلال حركات آخر حرف في الكلمة.
-         الدلالة الاصطلاحيّة بين النحو والإعراب: النحو هو القواعد التركيبيّة التي تتناول خاصّيّة الإعراب في اللغة العربيّة. ونلاحظ في أغلب كتب النحو ربطت تعريف النحو بمفهوم الإعراب:
ابن جنّي الخصائص
392هـ
-         الإعراب: هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ ألا ترى أنك إذا سمعت أكرم سعيد أباه وشكر سعيدًا أبوه علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول
-         النحو: هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة والنسب والتركيب وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإن لم يكن منهم وإن شذ بعضهم عنها رد به إليها. وهو في الأصل مصدر شائع أي نحوت نحوا كقولك: قصدت قصدًا ثم خص به انتحاء هذا القبيل من العلم كما أن الفقه في الأصل مصدر فقهت الشيء أي عرفته ثم خص به علم الشريعة من التحليل والتحريم
الجرجاني  - كتاب التعريفات
816هـــ
-         النحو: هو علم بقوانين يعرف بها أحوال التراكيب العربية من الإعراب والبناء وغيرهما، وقيل: النحو: علم يعرف به أحوال الكلم من حيث الإعلال، وقيل: علم بأصول يعرف بها صحة الكلام وفساده.
-         الإعراب: هو اختلاف آخر الكلمة باختلاف العوامل لفظًا أو تقديرًا.
ابن السراج الأصول
316هـ
-          النحو إنّما أريد به أن ينحو المتكلم -إذا تعلمه - كلام العرب، وهو علم استخرجه المتقدمون فيه من استقراء كلام العرب، حتى وقفوا منه على الغرض الذي قصده المبتدئون بهذه اللغة, فباستقراء كلام العرب1 فاعلم: أن الفاعل رفع, والمفعول به نصب, وأن فعل مما عينه: ياء أو واو تقلب عينُه من قولهم: قام وباع2.
-         الإعراب: والضرب الثاني من التغيير: هو الذي يسمى الإعراب وهو ما يلحق الاسم والفعل بعد تسليم بنائهما ونضد حروفهما نحو قولك: هذا حكم وأحمر, ورأيت حكما وأحمر, ومررت بحكم وأحمر
ابن هشام شرح شذور الذهب
708هـ
-         الإعراب: َأَقُول للإعراب مَعْنيانِ لغَوِيّ وصناعي فَمَعْنَاه اللّغَوِيّ الْإِبَانَة يُقَال أعرب الرجل عَمَّا فِي نَفسه إِذا أبان عَنهُ وَفِي الحَدِيث الْبكر تستأمر وإذنها صماتها والأيم تعرب عَن نَفسهَا أَي تبين رِضَاهَا بِصَرِيح النُّطْق وَمَعْنَاهُ الاصطلاحي مَا ذكرت مِثَال الْآثَار الظَّاهِرَة الضمة والفتحة والكسرة فِي قَوْلك جَاءَ زيد وَرَأَيْت زيدا ومررت بزيد أَلا ترى أَنَّهَا آثَار ظَاهِرَة فِي آخر زيد جلبتها العوامل الدَّاخِلَة عَلَيْهِ وَهِي جَاءَ وَرَأى وَالْبَاء وَمِثَال الْآثَار الْمقدرَة مَا تعتقده منويا فِي آخر نَحْو الْفَتى من قَوْلك جَاءَ الْفَتى وَرَأَيْت الْفَتى ومررت بالفتى فَإنَّك تقدر فِي آخِره فِي الْمِثَال الأول ضمة وَفِي الثَّانِي فَتْحة وَفِي الثَّالِث كسرة وَتلك الحركات الْمقدرَة إِعْرَاب كَمَا أَن الحركات الظَّاهِرَة فِي آخر زيد إِعْرَاب.

 تشير هذه التعريفات إلى علاقة مخصوصة بين النحو والإعراب. فالعربيّة لغة خاصّيتها الإعراب أي البيان والوضوح وهي تعتمد في توضيح المعاني وبيان الدلالات على حركات آخر الكلمة (حرف الإعراب).  وتتناسب هذه الخاصّيّة مع المعنى اللغويّ للإعراب (الوضوح والبيان). ولذلك توسم العربيّة بأنّها لغة إعرابيّة لأنّها تعتمد الإعراب في توضيح معانيها وبيان المقصود من ألفاظها في مقابل الخاصّيّة الانضماميّة للغات اللاتنيّة مثلا حيث تتوضّح المعاني بوجود زائدة تركيبيّة تنضمّ للجذر. في المقابل نجد نفس المصطلح (الإعراب) يطلق على النحو باعتباره صناعة/علما يتناول القواعد النظريّة النحويّة للّغة العربيّة ويمكن أن نذكر مثلا لذلك كتاب الزمخشريّ "المفصّل في صناعة الإعراب"، فالصناعة تعني العلم وربطه بالإعراب يعني أنّ المقصود هو المصطلحات والمفاهيم النحويّة لا خاصّيّة العربيّة في حدّ ذاتها.
خلاصة الأمر أنّ هناك مستويين للإعراب ينبغي التمييز بينهما:
ـ   الإعراب باعتباره خاصّية اللغة العربيّة: قبل ظهور النحو وهو يعني وضوح المقاصد وبيانها عن طريق إظهار الحركات آخر الكلمات.
ـ  الإعراب باعتباره صناعة: وتعني الصناعة عند القدامى العلم. ويشير ابن خلدون إلى أنّ العرب حين استخرجوا علم النحو سمّوه بنفس تسمية خاصّية العربيّة وهي "الإعراب". ولذلك ينبغي أن نميّز في استخدامنا لمصطلح الإعراب بين مفهومي "الميزة" و"الصناعة". ويمكن أن نختزل جهود النحاة العرب على مرّ العصور ضمن ما يمكن تسميته بنظريّة الإعراب أو نظريّة العامل الإعرابيّ.
ونلاحظ في الكثير من كتب الأوائل استخدام مصطلح "علم العربيّة" في تسمية علم النحو فقد أثبت أبو البركات  الأنباريّ في أوّل كتابه "نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء" بابا سمّاه "أوّل من وضع علم العربيّة" وقد درج النحاة وكتّاب سيرة النحاة على استخدام هذا المصطلح مرادفا لعلم النحو (ابن جنّي/ الأنباريّ) وتسمية كتبهم به (شرح اللمحة البدرية في علم العربية لأبي حيان الأندلسي/همع الهوامع شرح جمع الجوامع في علم العربية لجلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطيّ). ويدلّ هذا الاستخدام على أنّ النحو علم يهتمّ بأهمّ سمة في العربيّة وهي الإعراب.
3        - الفرق بين النحو ومختلف العلوم اللغويّة:
يستخدم النحاة مصطلح النحو (أو صناعة الإعراب أو علم العربيّة) بمفهومين اثنين أحدهما عامّ والثانيّ خاصّ. أمّا المعنى العامّ فيعني أنّ صناعة الإعراب تشمل دراسة جميع الوجوه والظواهر المتّصلة باللغة العربيّة من نحو وتصريف واشتقاق وتغييرات صوتيّة (تعريف ابن جنّي للنحو). وأمّا المعنى الثاني فخاصّ ويعني دراسة النحو للجانب التركيبيّ فقط فلا يشمل المستويات الأخرى من تصريف واشتقاق.
وعموما يقيم النحاة قسمة بين نوعين من الأحوال التي يكون عليها الكلام في العربيّة:
-         أحوال الكلم المفرد: ما يطرأ على الكلمات من تصريف واشتقاق وتغييرات صوتيّة (الصرف = تصريف +  اشتقاق)
-         أحوال الكلم المركّب: ما يطرأ على الكلمات العربيّة من تغيير في الإعراب بسبب العامل النحويّ. (التركيب)
لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن استقرار التمييز بين مصطلحات الصرف والتصريف والاشتقاق لم يحدث إلا متأخّرا فقد كان النحاة يستخدمونها بتجوّز على خلاف ما صارت عليه اليوم من وضوح. وقد ذكر ابن جني أنّ علم التصريف به تعرف أصول كلام العرب من الزوائد الداخلة عليها، ولا يوصل إلى معرفة الاشتقاق إلا به. (المنصف 1 / 2) . وذكر في موضع لاحق أن التصريف إنما هو أنْ تجيء إلى الكلمة الواحدة فتصرفها على وجوه شتى. (نفسه 1/3) . ويدلّ ذلك على تمييز بين مفهومي الاشتقاق والتصريف. كما ذكر ابن الحاجب أن التصريف علم بأصول تُعْرَف بها أحوال أبنية الكلم التي ليست بإعراب. (شرح الشافية 1 / 1) . ويدلّ ذلك على تمييز هذين العلمين عن النحو.  وذكر ابن عصفور أنه كان ينبغي أن يقَدَّم علم التصريف على غيره من علوم العربية، إذ هو معرفة ذوات الكلم في أنفسها من غير تركيب. (الممتع 1 / 30، والتصريف الملوكي 18 - 19). أمّا الجرجاني فضمّ علمي التصريف والاشتقاق ضمن كتاب سمّاه المفتاح في علم الصرف. ممّا يدلّ على أنّ لفظ الصرف يضمّهما.
4        - الفرق بين النحو وأصول النحو:
النحو علم يهتمّ بالقواعد التركيبيّة التي تضمن صحّة الجملة العربيّة واستجابتها لنظام الإعراب. وبما أنّهذا العلم لم ينشأ دفعة واحدة في كتاب سيبويه كما يظنّ البعض بل سبقته مراحل من التطوّر ولحقته مراحل أخرى من التغيير في المصطلحات والاختلاف في الآراء. وقد دفع ذلك النحاة إلى اتّخاذ مواقف وآراء مختلفة من بعض المسائل النحويّة واعتمدوا مناهج مختلفة في تفسير القاعدة النحويّة الواحدة. ونشأ عن ذلك حركيّة فكريّة وتفكير نحويّ عميق في العلل التي يمكن أن نبرّر بها القواعد النحويّة. وهو ما أنشأ علم أصول النحو. ويمكن ان نقيس علم أصول النحو بعلم أصول الفقه فإذا كان هذا العلم الأخير حو يعرّف بـ "العلم بالقواعد التي يُتَوصَّل بها إلى الفقه " فإنّ أصول النحو هو العلم بالقواعد التي يتوصّل بها غلى النحو. فالفاعل او المبتدأ حكمهما في النحو هو الرفع  وهي قاعدة نحويّة لا اختلاف فيها بين النحاة. أمّا تبرير علّة رفعهما والاختلاف في العوامل التي كانت سببا في ذلك فهذه مسائل تنتمي إلى مستوى التفكير في النحو أي إلى أصول النحو.
ويعرّف السيوطيّ علم أصول النحو بأنّه "علم يبحث فيه عن أدلّة النحو الإجماليّة من حيث هي أدلّته  وكيفيّة الاستدلال بها وحال المستدلّ وأدلّة النحو الغالبة أربعة (السماع والإجماع والقياس والاستصحاب)"[الاقتراح في أصول النحو]. ويفسّر السيوطي أنّ قوله عبارة أدلّة النحو في تخصيص موضوع هذا العلم تجعله علما مختلفا عن علم النحو. ويدلّ هذا لتعريف أنّ علم أصول النحو علم بالمبادئ الكبرى والمناهج التي ينبغي أن يتّبعها النحويّ في دراسته للعربيّة.
أهمّ المسائل التي تناولها النحاة في كتبهم : التعليل – الإعراب – القياس – العامل – الإسناد واختلفوا ضمن هذه القضايا لكنّهم لم يخرجوا عنها باعتبارها أصولا عامّة لتفكيرهم، من ذلك مثلا اختلافهم في تقدير العامل في المبتدأ فقد تباينت آرء البصريّين والكوفيّين، إلا انّهم لم يخرجوا عن تصوّر العوامل النحويّة. وقد قسّم المنصف عاشور هذه الأصول الكبرى للنحو إلى نوعين:
أصول  نظريّة تتعلّق بمبادئ نظريّة العامل الإعرابيّ (أقسام الكلام – الإعراب – العامل - الإسناد).
أصول منهجيّة تتعلّق بالمقاييس المنهجيّة التي اعتمدوا عليها في تحليل الأصول النظريّة (التعليل / القياس / الاستصحاب / الاستحسان).
إنّ هدفنا هو فهم طريقة تفكير النحاة في هذه الأصول وربطها بسياقها المعرفيّ فليس هدفنا التأريخ للنحو بل تفهّم طريقة النحاة في التفكير وتوضيح الأطر المنهجيّة العامّة التي حفّت بنظرهم واختلاف آرائهم.
 2- مراحل تطوّر التفكير النحويّ
النحو ليس علما منعزلا بل هو جزء من الثقافة العربيّة الإسلاميّة وله صلات بالبيئة الإبستيمولوجيّة التي نشأ فيها: فهناك تأثّر بمرحلة التدوين وتبادل تأثير مع العلوم المجاورة (المنطق/أصول الفقه/علم الكلام). وإذا كان كلّ علم يمثّل تعبيرا ثقافيّا عن مشاغل عصره، فإنّ ذلك يقتضي أن نربط كلّ طور من أطواره بالعوامل الحضاريّة والثقافيّة المؤثّرة فيه.  ونلاحظ أنّ كتب تاريخ النحو تختلف في تقسيم مراحل نشأة النحو العربيّ وهي في أغلبها تعتمد على مقياس تاريخيّ يتتبّع القرون والأعلام دوم ملاحظة الروح المنهجيّة العامّة التي طبعت كلّ فترة. ومن خلال الاعتماد على مقياس منهجيّ يخصّ الطريقة الغالبة في تفكير النحاة ولسمات الأبرز في طريقة تأليفهم.
 يمكن أن نقسّم تاريخ النحو إلى أربع مراحل أساسيّة:
مرحلة النشأة الأولى: وهي ترتبط بتفسير أسباب وضع النحو وتأثير مختلف العوامل في التمهيد لظهور هذا العلم. وتعتمد دراسة هذه المرحلة على مناقشة مختلف الأخبار الواردة في تفسير نشأة النحو، وتمحيص ما ورد فيها من أحداث ومفاهيم ومصطلحات. ويهمّنا أن نكتشف في هذه المرحلة أنّ النحو لم يكن وليد حادثة بسيطة وإنّما هو نتيجة لجملة من العوامل المتداخلة استدعت حضوره
مرحلة التأسيس : ندفع في هذه المرحلة شبهة أن يكون النحو قد نشأ مكتملا ونركّز على مساهمات الخليل وتلميذه سيبويه ومن سبقهما ممّن كان لهم دور حاسم في تجميع أبواب النحو وتنظيمها في شكل نظريّة متكاملة في تفسير الكلام العربيّ. ونسعى بذلك إلى مراجعة بعض الفرضيّات التي تدّعي أنّ النحو ظهر مكتملا في كتاب سيبويه .
مرحلة تعميق النظر في النحو : تمثّل هذه المرحلة مرحلة النضج والتفكير النحويّ وتأسيس علم أصول النحو وهي تتميّز بوجود تنافس بين مدرستي البصرة والكوفة. ومن خلال هذا التنافس برزت الكثير من الآراء المختلفة والتعليلات المتعارضة حول أحكام النحو. وقد أضفى ذلك حركيّة على التفكير النحويّ وجعل النظريّة النحويّة العربيّة تشهد تطوّرا مستمرّا وتحوّلات في مستوى الاصطلاح والمفاهيم دون أن تخرج عن الأصول العامّة التي وضعها المؤسّسون.
مرحلة الاستيعاب والتبسيط: تتميّز هذه المرحلة بنزوع التاليف النحويّ إلى مراجعة ما كتب في النحو فقد بات النحو المستتبّ نحوا بصريّا ولم يكن لمدرسة الكوفة امتداد فعليّ وقد برزت هذه المراجعات في حركتين: حركة التلخيص ووضع الكتب التعليميّة وحركة الشرح والتوسّع وتبسيط القواعد.  

تعليقات

  1. يمكن إثبات التعليقات والأسئلة والمناقشات في هذه الخانة أو عبر البريد الالكتروني

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدرس الثاني : اللسانيّات البنيويّة ومفاهيمها الأساسيّة

تحميل الدرس بصيغة ب د ف من هنا  اللسانيّات علم يتنزّل ضمن مستوين متفاعلين: مستوى داخليّ ضمن علم اللسانيّات؛ يتعلّق بتطوّر النظريّات والمدار س اللسانيّة فتولد النظريّات الجديدة انطلاقا من المآزق التي تصل إليها النظريّات القديمة، فكلّ نظريّة تمثّل نقدا للسابق وإضافة جديدة لا تقطع نهائيّا مع ما قبلها من تصوّرات. أمّا المستوى الثاني فخارجيّ يتعلّق بوجود صلة بين اللسانيّات وسائر العلوم المجاورة وقوامها علاقة تأثّر وتأثير بينهما. ذلك أنّ اللسانيّات تتأثّر بما يحدث في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها وهي في نفس الوقت تؤثّر في سائر العلوم الإنسانيّة من نقد وإنشائيّة وأنتروبولوجيا. ضمن هذين المستويين يمكن أن ندرس آراء دي سوسير المؤسّسة للبنيويّة. 1- الخلفيّات الفكريّة والعلميّة لظهور اللسانيّات البنيويّة : بالعودة إلى كتاب سوسير المؤسّس "دروس في الألسنيّة العامّة" يمكن أن نلاحظ وجود مؤثّرات مختلفة تتعلّق من جهة أولى بما كان سائدا في الدراسات اللسانيّة قبله. وبما كان يسود في عصره من مناهج ومفاهيم في سائر العلوم. أ- نقد المنهج التاريخي المقارن : كانت اللسانيّات في

الدرس الثاني : خصائص النظريّة اللسانيّة ومدى انطباقها على النحو التوليديّ

لتحميل الدرس في صيغة ب د ف اضغط هنا  مقدمة: في كلّ علم هناك مقابلة شائعة بين النظريّ والتطبيقيّ. وفي علم اللسانيّات نجد كلاما نظريّا عن الدال والمدلول والبنية والقيمة والشكل، والصوتم... ونجد في المقابل تطبيقات على العربيّة والانجليزيّة وسائر الألسنة. هذا التمييز لا يعني أنّ كلّ من يخوض في الخطاب النظريّ هو منظّر وصاحب نظريّة فهناك كثير من اللسانيّين يكتبون بحوثا نظريّة في اللسانيّات وينشرونها في شكل مقالات وكتب. ولكنّ عددا قليلا منهم يمكن اعتبارهم من المنظّرين. ما هو السبب في ذلك؟ ليس كلّ كلام نظريّ   يمثّل نظريّة فللنظريّة شروط وخصائص ينبغي أن تتوفّر حتّى تندرج فيها ىراء لسانيّ ما. أمّا اكثر البحوث النظريّة فقد تكون تعقيبا على نظريّة أو اشتغالا ضمنها أو نقدا لها أو تدقيقا لمفهوم. نطرح في هذا الدرس أبرز خصائص النظريّة اللسانيّة من الناحية الإيبستيمولوجيّة. وبأيّ معنى تحقّق نظريّة النحو التوليديّ هذه الخصائص. 1-   مفهوم النظرية اللسانيّة وخصائصها: إنّ مجرّد الخوض في كلام نظريّ لا يعني أنّ صاحبه بصدد التنظير. إذا كان المقصود بالتنظير هو إنشاء نظريّة فليس أمرا متاحا لجميع اللسا
الدرس الأوّل:  مدخل تاريخيّ إلى علم اللسانيّات اضغط هنا لتحميل الدرس أهداف الدرس 1- تعريف اللسانيّات: موضوعها أهمّ مفاهيمها. 2- التعرّف على أهمّ أطوار اللسانيّات ومناهجها ومدارسها وأعلامها. 3- التمييز بين أهمّ فروع اللسانيّات: * اللسانيات العامّة /علم الأصوات/ علم الدلالة/ التداوليّة. 4- التعرّف على علاقة التأثّر والتاثير بين اللسانيّات ومختلف العلوم المجاورة.                                 كلّ علم يمكن تعريفه من خلال موضوع دراسته ومنهجه ونظريّاته وأطواره وفروعه وأعلامه. واللسانيّات علم موضوعه اللغة ومناهجه ونظريّاته وأطواره متغيّرة من التاريخيّة إلى البنيويّة إلى التوليديّة إلى العرفانيّة وفروعه كثيرة منها الصوتميّة والدلالة والتداوليّة وأعلامه يتفاوتون في التأثير والأهميّة. 1- تعريف اللسانيّات: الموضوع المفاهيم المنهج الأعلام أ- موضوع اللسانيّات:  تعرّف اللسانيّات linguistique/ linguistics بأنّها الدراسة العلميّة لسائر اللّغات الطبيعيّة. وهي علم من العلوم الإنسانيّة بما أنّ اللغة خاصّية بشريّة. وقد ظهر هذا المصطلح ( linguistique